لديّ مشكلة كبرى وهي أنني لم أعد أطيق السخرية..صحيح أن جيلبرت سينويه قال في مقدمة روايته الشهيرة "المصرية":(يولد المصري وفي قلبه ورقة بردي مكتوب عليها بحروف ذهبية :أن السخرية هي المنقذ من اليأس) لكن ما يحدث الآن في كل لحظة في حياة المصري أصبح أكثر مما ينبغي، إما لأن اليأس طغى، وإما ولأنني من أتباع نظرية المؤامرة لخسف اعتداد المصري بقدراته وترسيخ نظرته الدونية لنفسه لحساب الجنسيات الأخرى خاصة الغربية ..مثال على ذلك نراه جلياً وواضحاً عبر الفيسبوك على شكل وجه ضاحك أصبح رمزاً للسخرية مؤخراً يعقد مقارنات مختلفة بين المصري وعلى سبيل المثال الفرنسي والأمريكي منتوجها أن المصري حقير النفس لا يحترم كلمة ولا زوجة ولا بيت ولا شارع ولا بيئة ولا حياة ولا تعليم..لا يحب النظافة ويتأفف من النظام..ليس الرجل المصري فقط بل طال الأمر الزوجة والبنت والموظف والطفل والطالب ..ولا أفهم على وجه التحديد ما الذي نجنيه من استمراء تلك الحالة..صحيح أنه وربما منذ عقود تواجدت مزحات وقفشات على نفس الوتيرة لكن تكثيف الأمر هو ما يزعجني..هذا على المستوى العام ..على المستوى السياسي تجد كل الفصائل تسخر من بعضها البعض سخرية مريرة لا يقتصر الأمر فيها على الواقع السياسي أو المنهج الفكري للاتجاهات المختلفة لكن الأمر تعدى كل المسموح به من الهبوط وأصبح الكل ينال من الكل بهدف التحطيم والهدم..فتحطيم الآخر هو الضمان الوحيد –من وجهة نظر كل- لنجاح الساخر أو لحصوله على نقطة في مباريات العدو نحو كرسي السلطة أو الثبات فوقه ليس هذا فحسب فتلك الحالة رسخت لمبدأ الكبر لأن السخر المنتمي إلى فصيل بعينه ينافح عنه ظالماً أو مظلوماً بالحق والباطل تدخله السخرية المستمرة من غيره في حالة استعلاء على الآخر وعدم تقبل مجرد الاستماع له..وأقصد بالاستماع هنا ذلك النوع الذي يكون فيه كل طرف هدفه الأول والأخير من الاستماع للآخر هو فهم ماذا يريد ان يقول..ماذا يريد أن يوصل إلينا من أفكار لا الاستماع الذي تبنته الكثير من برامج الحوار الفضائية المشهر سلاح الهجوم من قبل أن ينبس الطرف الآخر ببنت شفة والذي يفضي في النهاية لأنماط من العنف اللفظي والجسدي لا نهاية لمداها.... الغريب أنه لم يعد هناك زاجر لهذا السلوك لا ديني ولا أخلاقي ..فلا أحد يلتزم بشعاراته التي ينادي بها..ولا أحد يقدس الحرية التي يتلو علينا أناشيدها ليل نهار ويبشرنا بشمسها الجديدة كلما غربت لها شمس قديمة..وإذا حاولت ترشيد استخدام تلك الحالة قوبلت بردود وهمية بعضها حق أريد به باطل كمثل: هذه هي الديموقراطية التي تسعون إليها والتي في بلادها التي اخترعتها تطبق بنفس الطريقة أو بمقولة: العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم..وبعضها هلامي استسلامي مثل:(ياسيدي خلينا نضحك هو كله نكد نكد)...و..(لو كان من نسخر منهم فيهم ما سخرنا منه فقد نقدناهم ولو لم يكن فقد ضحكنا سوياً في الزمن الصعب)...ولا أحد يحاول أن يفقه أبداً آيات الله حين قال في كتابه العزيز: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بالأَلْقَاب...)) و عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، قَالَ : مَرَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَالْحَوَارِيُّونَ عَلَى جِيفَةِ كَلْبٍ ، فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ : مَا أَنْتَنَ رِيحَ هَذَا ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : مَا أَشَدَّ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ , يَعِظُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْغِيبَةِ والكلام واضح في الحديث ..فبالرغم من أن الحواريين قد تكلموا عن جيفة كلب نتنة لكن رسول الله عيسى يعلمهم أن يحاولوا قدر استطاعتهم أن يروا الجمال لا القبح فكلاهما معد..الذي يري الجمال سيناله من مسكه والذي يرى القبح سيحرقه كيره..وكما قال إيليا أبو ماضي:كن جميلاً ترى الوجود جميلاً ثم لم نصر على (عقدة الخواجة) التي تصر على ألا تغادرنا جيلاً بعد جيل بالرغم من أنهم أصحاب ثقافة المافيا والإباحية والبلطجة والعصابات التي صدروها لنا عن طريق الدراما والأدب والبرامج التلفزيونية والسماوات المفتوحة؟..لا ننكر بالقطع أنهم أصحاب حضارة وأن لدى كثير منهم معنى الالتزام متأصلاً فيهم منذ البداية ولكن ربما يحدث هذا لأنهم بشكل أو بآخر تخطوا مراحل التخبط والانتقال من اللاحرية الطاغية إلى الحرية المقننة..فحريتهم رغم كل شيء خاضعة لضوابط وقوانين تحترم بقوتها وبإرسائها الصحيح داخل النفوس منذ نعومة الأظفار...لكن هذا لا يعني أبداً أنهم بلا أخطاء وأنهم الشعوب الأسمى وأنهم هم الأصلح لإدارة العالم..وبالتأكيد بالنسبة لهم..هذا هو المطلوب إثباته. Comment *