انتهى التصعيد الإعلامي التركي المألوف ضد الولاياتالمتحدة، بشأن حضورها العسكري في منبج – شمال شرق حلب، إلى "توافق" أُعلن عنه مع انتهاء زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى أنقرة، وبذلك تنتهي التهديدات التركية بتوجيه صفعة إلى القوات الأمريكية الداعمة عسكريّا للأكراد إلى عبارة غامضة: "اتفاق لتشكيل لجان مشتركة لحل الخلاف حول منبج، ووضع آلية لحل المسألة قبل منتصف مارس"، مع تأكيد الطرفين على متانة العلاقات وعودتها إلى مربّع التحالف الاستراتيجي القائم منذ عشرات السنين، بعد فترة من التلاسن والشد والجذب بالكلمات، صاحبَت العملية التركيّة لضرب الأكراد في عفرين وما أُعلن من نيّة لضرب منبج بعد إتمامها. الرسائل التركيّة المتوالية لم تكن الأولى من نوعها، وإن جاء الرد الأمريكي عليها قاسيا، وقتها، حين صرّح مسؤول عسكري أمريكي إنه سيتم قصف قوات درع الفرات التركيّة إذا ما هاجمت منبج، بموازاة زيارته الأولى من نوعها إلى المدينة والتي اجتمع خلالها بقائد "المجلس العسكري لمنبج"، أحد مكوّنات الحلف الكردي والمشكّل أغلبه من عناصر عربيّة، وعلى ذات الخط أكّد تيلرسون، خلال زيارته اللاحقة لهذا التصريح، أن الدعم العسكري الأمريكي للأكراد لن يتوقف وأن القوات الأمريكية لن تخرج من منبج، وتشمل ما رصده الأتراك من مخيمات تدريب عسكري و3 مقرّات عسكرية أمريكيّة متنوّعة ونحو 300 جندي يتمركزون في منطقة سد تشرين – جنوب شرق منبج، فضلا عما أثار الذعر التركي وهو تخصيص 550 مليون دولار في ميزانية البنتاجون لعام 2019 لدعم وتدريب الأكراد و"قوة أمنيّة حدودية" غير معلوم ماهيتها إلى الآن.
الحضور الأمريكي.. من شرق الفرات إلى غربه
يمثّل الحضور العسكري الكردي مكسبا وحيدا للولايات المتحدة من مجمل الحرب السورية، بعد تكلفة سياسية واقتصادية مرتفعة لم تثمر سوى مزيد من القوة والنفوذ لأعداء المشروع الأمريكي في المنطقة، أي سوريا وإيران وحزب الله، وعلى ذلك أقام الجيش الأمريكي خلال العامين السابقين 9 مرتكزات عسكريّة في قطاع شرق نهر الفرات الذي يسيطر عليه الأكراد، شمال شرق سوريا، وقد دعمهم وسلّحهم ودرّبهم تحت شعار محاربة داعش، مع ما وفّره من غطاء سياسي لسعيهم الانفصالي نحو إقامة ما يُسمّى "فدرالية شمال سوريا"، ومنحهم شرعيّة ل"المجالس المحليّة" التي أقاموها خارج مركزهم الشعبي الحقيقي في محافظة الحسكة، حيث الأغلبية السكّانية الكردية، في عين عيسى – محافظة الرقّة ومنبج وعفرين – محافظة حلب.
لم يكن التأخّر الأمريكي في توفير ضمانات لتركيا بخصوص الأكراد وسلاحهم عفويّا، وكذلك إعلان الجيش الأمريكي في يناير الماضي خطّته لتدريب 30 ألف عنصر كردي مسلّح، بل مهّد ذلك، بشكل أو بآخر، للعملية التركيّة في عفرين التي جاءت كاستجابة لهذا التأخّر، وبالتالي للتهديد التركي بالتوجه إلى منبج بعد عفرين، فأصبح توفير ضمانة "دوليّة" للأمن القومي التركي في مواجهة الأكراد مطلبا له منطق وجيه وشرعيّة دوليّة.
مثّل التحرّك السياسي الأمريكي المكثّف استثمارا لتلك الحالة بثلاث لقاءات مشتركة مطوّلة خلال أقل من أسبوعين، شملت مباحثات مستشار الأمن القومي الأمريكي مع نظيره التركي في إسطنبول، ثم مباحثات في بروكسل على هامش اجتماع لدول حلف الناتو بين وزيري دفاع الدولتين، وأخيرا زيارة وزير الخارجية التي تخللها لقاء مطوّل مع أردوغان؛ من هنا نجحت الولاياتالمتحدة في استخدام قلق تركيا من الحضور الكردي المسلح الملاصق لحدودها، في قطاع غرب الفرات تحديدا، لتضع نقطة حضور لها في هذا القطاع (أي في منبج) بعد حضورها في قطاع شرق الفرات، وعلى ذلك تعمل الخطوات الأمريكية لتحويل الأمر الواقع المفروض والمرفوض تركيّا، أي الحضور العسكري الأمريكي في منبج، من "مشكلة" إلى منطلق للحل، في ظل الترحيب الكردي اللامحدود بهذا الحضور في مواجهة تركيا وضغطها.
يمثّل الحضور العسكري الأمريكي في منبج – حلب فرصة ذهبية لحيازة أوراق قوة لا يوفرّها مثيله في الحسكة والرقّة – شرق الفرات، فيكفل إشرافا جغرافيا على مطارين عسكريين سوريين في ريف حلب الغربي، الجرّاح وكويرس، هما الأهمّ في القطاع الغربي من شمال سوريا، بعد أن دعم الجيش الأمريكي استيلاء الأكراد على مطار الطبقة العسكري – جنوب الرقة، وأجهض سعي الجيش السوري لتحريره من داعش.
ساهمت القوّة العسكريّة الأمريكيّة خلال عاميّ 2015 و2016 في تعميق أزمة الحضور الكردي المسلّح على حدود تركيا، بالتسليح والغطاء السياسي وشرعنة كافة تحركاتهم، وهو ما ثبتت فاعليّته، فيما بعد، كقوّة احتياطيّة للصالح الأمريكي نبعت من استثمار "الأزمة"، ومهّدت لاستخدام المناطق المسيطَر عليها كرديّا لإنشاء قواعد عسكريّة ووضع قوّات نوعية ومهابط عسكرية للطائرات ومحطات لوجيستيّة عسكريّة، حتى بعد اندحار داعش من الرقّة ومن كل مرتكزاتها الكبرى، وصولا إلى انحسارها في جيوب محدودة ومحاصَرة ومعزولة عن مناطق الأكراد باستثناء دير الزور، التي امتنع (ويمتنع) الأكراد والولاياتالمتحدة عن إنهاء الوجود الداعشي فيها، أقصى شمال شرق سوريا، لإضفاء الشرعيّة على الحضور العسكري الأمريكي في الشمال السوري.