رشيد مدينة الأبواب الموصدة ثغر رشيد من أقدم الثغور المصرية، وقد ورد ذكر المدينة في الكتب القديمة باسم "بولبتين" أما اسمها الحالي فقد اكتسبته من اسمها القبطي "رشيت" الذي كان في الأصل "رخيتو" وتعني عامة الناس.. وهؤلاء هم من تصدوا للملك مينا نارمر عندما غزا البلاد الشمالية من أجل تحقيق وحدة البلاد تحت قيادته. وتشير المصادر التاريخية إلى أن رشيد شهدت أول انتصار كبير يحققه جيش مصر على الأعداء القادمين من الغرب (اللوبيون والإغريق والصقليون) إذ دارت رحى تلك المعركة على أرض رشيد في عهد الأسرة التاسعة عشرة.. كما أصبحت المدينة التاريخية عام 663 ق.م مركزا عسكريا عرف بالمعسكر "الميليزي" الذي جعله الملك "بسماتيك" الأول مقرا لاستقبال جنوده الآتين من جزر المتوسط.. وكان الهدف هو تأمين حدود مصر الغربية ضد هجمات "اللوبيين" وضد هجمات الآشوريين الآتية من الشرق.. ثم تضاءلت أهمية المدينة رويدا رويدا بعد إنشاء الإسكندرية التي صارت عاصمة لمصر. أهل رشيد يتصدون لحملة فريزر 1807م رشيد أثناء الفتح العربي لمصر دخل العرب ثغر رشيد صلحا بعد دخولهم الإسكندرية بقليل، وتشير المراجع إلى أن حاكمها البيزنطي "قزمان" قد أدى الجزية عن أهل المدينة للمسلمين، وظلت المدينة بعيدة عن الاضطرابات الكبرى إذ كانت تعد من أهم المراكز الدينية في مصر آنذاك.. وفي عام 132ه عرفت رشيد الثورة ضد حكم مروان بن محمد الاموي، لكن هذه الثورة سرعان ما أخمدت على يد حملة جردها الأموي على المدينة.. وتم التنكيل بأهل المدينة الذين كانوا بعد ذلك من أول المناصرين للعباسيين، ولكن للأسف لم يحفظ العباسيون لهم الجميل، وساموهم سوء العذاب؛ فكان أهل رشيد في طليعة الثائرين على حكم بني العباس فيما عرف بثورة البشموريين المشار إليها تفصيليا في مقال سابق.. ويذكر أن موقع المدينة الحالي ليس موقعها الأول بل هو الموقع الذي نقلت إليه في عهد احمد بن طولون عام 256ه. وقد شهد العام 306ه معركة بحرية على سواحل رشيد بين العباسيين والفاطميين انتهت بتدمير أسطول المهدي ومقتل كثير من رجاله، ووقوع البعض في أسر العباسيين. ونظرا لكثير من الظروف المناخية والاقتصادية والسياسية وقعت المدينة العريقة في جُب النسيان لحقب تاريخية طويلة، ولم تستعد أهميتها سوى في عصر المماليك الذين عمروها بالمساجد والمدارس والحمامات، والمنشآت الحربية، فعاد إليها كثير من أهلها الذين غادروها إلى المدن المجاورة.. ويذكر المؤرخ ابن دقماق أن رشيد استفادت كثيرا مما نزل بالثغور المصرية من أهوال جرّاء هجمات الصليبيين المتلاحقة أواخر عصر المماليك؛ مما أصاب تلك المدن بالإنهاك الشديد.. فكانت تلك فرصة لرشيد لتستعيد مجدها التليد، وكما يقولون "مصائب قوم عند قوم فوائد". ويذكر أن السلطان "قايتباي" بنى قلعة برشيدعام877ه، بعد ذلك بنحو أربعة عقود بنى السلطان "قنصوه الغوري" سورا يحمي المدينة من ناحية البحر، وزوده بعدد من الأبراج الحربية. وقد تعرضت المدينة أواخر عصر المماليك للعديد من غزوات القبارصة لكن أهل رشيد كانوا يردوهم عن المدينة ويهزمونهم شر هزيمة، وقد جرد السلطان "برسباي" حملة لتأديبهم انطلقت من رشيد، ووصلت إلى قبرص، وحدثت مواجهات بين الفريقين استمرت لبعض الوقت، وعادت الحملة سالمة.. وكف القبارصة عن مهاجمة رشيد بعد ذلك لفترة طويلة. رشيد في العصر العثماني مع بداية احتلال العثمانيين لمصر عام 1517م زادت أهمية ثغر رشيد، حتى صارت رشيد الثغر المصري الأول، فزادت حركة التجارة به، وعمر بالمساجد والمنشآت والوكالات والمحال التجارية.. فكان حجم المتداول من الذرة في رشيد في حملة لضبط الأسعار عام1031ه ضعف ما تم تداوله في ثغر دمياط. بعد تراخي قبضة العثمانيين على البلاد عاد المماليك من جديد يسومون الناس سوء العذاب، وكان لرشيد النصيب الأوفر من الظلم، والضرائب المستحدثة، ومنها الضريبة على الغلال المُصدّرة.. حتى ضجَّ الناس بالشكوى من إجرام رجال مراد بك الذي كان يتقاسم السلطة آنذاك مع إبراهيم بك. وعندما دخل الفرنسيون مصر عام 1798م احتلوا المدينة، وأطلقوا على قلعتها اسم "جوليان" بعد ذلك بثلاث سنوات جرت معركة شهيرة بينهم وبين الإنجليز بالقرب من المدينة هزم فيها الفرنسيون بعد صمود طويل.. وقد نالت المدينة شهرة كبيرة أثناء الحملة بسبب اكتشاف حجر "شامبليون" بها. جامع صالح اغا دومقسيس( الجامع المعلق) بوسط مدينة رشيد رشيد تذل الإنجليز وتجبر فريزر وحملته على التراجع في 21 مارس 1807 م، تصدى أهالي رشيد بقيادة محافظها علي بك السلانكي للحملة الإنجليزية بقيادة الجنرال "فريزر". وكان الإنجليز قد انتهزوا فرصة الصراع بين محمد علي والمماليك وضعف الجبهة الداخلية، فاتفقوا مع محمد بك الألفي زعيم المماليك على دعم الحملة البريطانية، في مقابل أن تساعد إنجلترا المماليك في الاستيلاء على حكم البلاد. كان الجنرال فريزر في الإسكندرية، قد تلقي تقريرا من قنصل إنجلترا في رشيد عن حالة مصر وما بها من قوات مما جعله يزحف برا إلى رشيد لاحتلالها، واتخاذها قاعدة حربية لقواته، وكلف القائد "ويكوب" بهذه المهمة العسكرية. تحرك الإنجليز في 1600 جنديا من الإسكندرية إلى رشيد. "عزم محافظ إقليم رشيد علي بك السلانكي وقواته المقدرة ب 700 جندي، على مقاومة عساكر الإنجليز، واستنفر الشيخ حسن كريت الأهالي للمقاومة الشعبية، فأمر بإبعاد المراكب المصرية من أمام شاطئ النيل برشيد إلى البر الشرقي المقابل عند الجزيرة الخضراء وبرج "مغيزل" بمركز مطوبس، لمنع الأهالي من ركوبها والفرار من المدينة، حتى لا يجد رجال حاميته وسيلة للارتداد أو الاستسلام أو الانسحاب، كما فعلت حامية الإسكندرية من قبل. أصبحت الحامية بين الأهالي متوارية بالمنازل داخل مدينة رشيد، لا مناص أمامهم إلا القتال والمقاومة، وأمرهم بعدم التحرك أو إطلاق النار إلا بعد صدور إشارة متفق عليها، فتقدم الإنجليز ولم يجدوا أي مقاومة، فاعتقدوا أن المدينة ستستسلم كما فعلت حامية الإسكندرية، فدخلوا شوارع المدينة مطمئنين، وأخذوا يستريحون بعد السير في الرمال من الإسكندرية إلى رشيد، وانتشروا في شوارع المدينة والأسواق للعثور على أماكن يلجئون إليها ويستريحون فيها. وما كادوا يستريحون، حتى انطلق نداء الآذان بأمر السلانكي من فوق مئذنة مسجد سيدي زغلول مرددا: الله أكبر، حي على الجهاد. فانهالت النيران من الأهالي وأفراد حامية رشيد من نوافذ المنازل وأسطحها، فقتل جنود وضباط من الحملة، وهرب من بقي حيا. بلغت خسائر الإنجليز 185 قتيلا و282 جريحا و120 أسيرا لدي حامية رشيد، وأتي محمد علي بقواته بعدما انسحب الإنجليز للإسكندرية، وفاوض الباشا الجنرال فريزر على الانسحاب من مصر التي غادرها مع قواته، وأحبط أهالي رشيد المشروع البريطاني لاحتلال مصر". لقد سطرت المدينة العريقة أروع صفحات البطولة في تاريخ مصر.. لكنها مازالت تعاني إلى يومنا هذا آثار الإهمال والنبذ.. وكأن هذا هو قدر المدن العظيمة الصامدة على الدوام في وجوه الأعداء والغاصبين.