«في عينها نار وجنة.. وعند وشده وهواده.. البنت وردة بيضا خلوا بالكم ياسادة».. رسمها الخال بدقة بالغة كفتاة مصرية ألهمت الجماهير بفنها خلال 40 عاما من تاريخ ممتد بالعطاء، لتكون المغنية والممثلة المتألقة على الشاشة الفضية لحوالي أكثر من 112 فيلما، ومسرحية واحدة، كآخر عمل فني قدمته قبل الاعتزال. صاحبة الصوت العذب الذي رافق وجدان الملايين فى كل مناسبتهم؛ العاطفية والوطنية والدينية، كانت الصوت المتدفق القوي الحالم في ذات الوقت؛ فعندما نعيش قصة حب، نسمع معها "على عش الحب، شباكنا ستايره حرير، اه ياسمرانى اللون.." وغيرها، وعندما نغني للوطن، نردد معها بحماس "ياحبيبتي يامصر"، لتثري وخزة ممتعة من الحب والانتماء في أجسادنا، وتقشعر جلودنا بهذا الحب الخالص في صوتها للوطن الأكبر. لقبت شادية أو فاطمة أحمد كمال الدين شاكر بالعديد من الألقاب؛ منها "فتوش، معبودة الجماهير، قيثارة العرب، صوت مصر"، ولدت في حي الحلمية الجديد بالقاهرة لأب مصري من الشرقية وأم تركية، وعرفت في الوسط الفني بهذا الاسم، واختلفت الآراء حول من أطلقه عليها؛ فمنهم من قال إن المخرج حلمي رفلة من اختاره لها، بعدما شاركت في فيلم "العقل في أجازة"، وهناك من يقول إن الفنان يوسف وهبي من أطلقه عليها عندما رآها خلال تصوير فيلم "شادية الوادي"، وتوجد قصة أخرى توضح أن الفنان عبد الوارث عسر من أطلق عليها الاسم عندما سمع صوتها لأول مرة قال إنها "شادية القلوب". قالت لأنيس منصور، في حوار جمعهما، إنها ممثلة تعمل في الغناء، ومع ذلك، وقعت في الغناء أولاً، فمع عزف والدها على العود في أمسيات جمعته بأصدقائه المقربين في منزلهم، وقفت شادية الطفلة بنت السبعة أو الثمانية أعوام، وغنت برفقتهم، ومن هنا علمت الأسرة، أنها تمتلك موهبة ستميزها عن غيرها، اكتشفها صاحب والدها الملحن التركي منير نور الدين، عندما زارهم في منزلهم، وسمع صوتها تشدوا بأغنية ليلي مراد "بتبصلي كده ليه"، فتبناها وعلمها أصول الطرب. قدمت شادية دورا ثانويا في فيلم "أزهار وأشواك"، ويعد أول تعارف بينها وبين الجمهور، وفي العام نفسه، لعبت دور البطولة في فيلم "العقل في أجازة" أمام الفنان محمد فوزي،حاول النقاد والسينمائيون حصرها في أدوار الفتاة "الدلوعة"، مستغلين ملامحها الجميلة وعيونها الشقية ورقة صوتها ورشاقة قوامها، إلا أنها حاولت التملص من تلك الأدوار، والخروج من ذلك الصندوق، فكانت تشبه العصفور المأسور داخل أحد الأقفاص، ويسعى جاهدا بكل ما أوتي من قوة للخروج إلى الحرية. توالت بعدها العديد من الأدوار المتميزة التي أثرت في السينما، وشاركت فيهم نجوم كبار مثل عبد الحليم حافظ، رشدي أباظة، فريد الأطرش، إسماعيل يس، فاتن حمامة، شكري سرحان، محمود مرسي، صلاح ذو الفقار، توفيق الدقن، حيث قدمت حوالي 112 فيلما و10 مسلسلات إذاعية ومسرحية واحدة فقط. قدمت دلوعة السينما أكثر من "دويتو" فني ناجح مع عمالقة السينما، وحققت أفلامها إيرادات كبيرة مع الفنان أنور وجدي في "ليلة عيد" و"ليلة الحنة"، ثم توالت نجاتها مع الفنان كمال الشناوي، فحققت إيرادات "بنت عمارات وجابت أراضٍ"، كما شكلت مع الراحل صلاح ذو الفقار "ثنائي تاريخي"؛ قدما أفلامًا حفظت في أرشيف السينما لسنوات عديدة، أبرزها "مراتي مدير عام"، و"كرامة زوجتي"، و"عفريت مراتي"، و"أغلى من حياتي" أحد روائع ذو الفقار الرومانسية، وقدما من خلاله شخصيتي "أحمد ومنى" كأشهر عاشقين في السينما. استمرت شادية في لعب تلك الأدوار، حتى سأمت منها، وكانت ترغب في الخروج من هذا الحصار، إلا أن المنتجين والمخرجين لم يوافقوا، فكانوا يروها كالعصفورة المغردة، التي لن تتمكن من لعب الأدوار الدسمة، لكنها لم تفقد الأمل وظلت تبحث عن الدور الذي ينقلها، ويغير حياتها، حتى وجدت رواية تحمل اسم "ليلة من عمري"، فتمسكت بها وقررت المشاركة في الفيلم مهما كانت الظروف. وتقول شادية عن "ليلة من عمري" في أحد حواراتها مع الإعلامي وجدي الحكيم "صحيح الفيلم ده خرب بيتي، ولكنه فتح لي مجال جديد"، وهذا بالفعل ما حدث، فعن طريق ذلك الفيلم، الذي لعبت فيه دور "سلمى" الفتاة القروية البسيطة التي تقع في حب أحمد مهندس الزراعة "عماد حمدي"، وتتورط معه في علاقة غير شرعية، حتى اقتنع المنتجون وصناع الأفلام بأن الوجه الملائكي البشوش، يخفي تحته بركانا خامدا من المواهب، يرغب في الانفجار، فبدأت العروض الجديدة والأدوار الجديدة تنهال عليها. تألقت "معبودة الجماهير" في عدد كبير من الأعمال الجديدة، فقدمت دور "نعمت" الفتاة المتمردة الكارهة لحياتها برفقة والدتها الخادمة والمربية، وتقرر الهروب من المنزل في "التلميذة"، ثم لعبت دور "حميدة" في زقاق المدق، الفتاة الجميلة الثائرة التي تركت حبيبها وحارتها وخالتها، من أجل الشهرة والثراء، لكن في النهاية "سكة حميدة كانت آخرتها تأبيدة"، وتقمصت شادية دور "نور" في "اللص والكلاب" ببراعة، واعتبره النقاد من أفضل وأروع أدوارها، الذي مثّل بداية مرحلة النضج الفني لها. رغم كونها في أوج نجاحها ونشاطها الفني، لم تخشَ شادية من لعب دور والدة شكري سرحان في فيلم "المرأة المجهولة"، ثم في "الطريق" الذي كانت فيه "كريمة" المرأة المتزوجة من رجل يكبرها في السن، التي نجحت في إيقاع صابر "رشدي أباظة" في شباكها، وخلعت شادية عباءة المرأة التي تبحث عن الشهوة، لتلعب دور "سيدة" التي تحلم بالحب الحقيقي والاطمئنان في "نحن لا نزرع الشوك"، إلا أن الحظ يوقعها في غرام حمدي "محمود ياسين" في الوقت الخاطئ. استمرت مواهب شادية في الظهور فترة بعد أخرى، لتفاجئ الجمهور والنقاد، فقدمت دور فؤادة في فيلم "شيء من الخوف"، وعلقت شادية على هذا الدور قائلة "لم أكن أرغب في لعب دور الصعيدية فقط، حتى اتحدث باللهجة الصعيدية، لكن رغبت في تقديم شخصية حلوة، وتقول شيء مفيد وهادف"، وسألها وجدي الحكيم عن استعدادها للدور، فقال لها "كنتي بتروحي لكوافير عشان فؤادة"، فأجبته بالنفي قائلة "كنت بغسل شعري وأضفره". لم يستطع أي شخص تحديد هوية شادية الفنية، هل هي مطربة، أم ممثلة، حتى هي، كانت تقول دائما: أحب الاثنين، التمثيل والغناء، ولا أستطيع أن أحصر نفسي في أحدهما، واستمر تألقها في مدرسة "محفوظ" الإبداعية في ستينات القرن الماضي، فقدمت روايات أخرى مثل "اللص والكلاب" و"زقاق المدق" و"ميرامار"،"، و"نحن لا نزرع الشوك". تعاونت شادية مع الكثير من الملحنين، وجمعهم بها علاقة طيبة، كان أولهم محمد فوزي بعد اشتراكهما في بطولة أول أعمالها "العقل في إجازة"، الذي تراه قدم لها خدمة كبيرة جدا، حيث فهم إمكانيات صوتها: "إداني ألحان خفيفة، ودمها خفيف، فطلعنا بنغمة جديدة وحلوة"، كما عملت مع بليغ حمدي في أغاني اعتبرها كثيرون من أهم أغاني كل منهما، مثل "أه يا اسمراني اللون"، "خلاص مسافر"، "يا حبيبتي يا مصر"، ومحمد الموجي، الذي تقول عنه "الموجي، لما اسمع ألحانه تدخل قلبي، لكن لما أسمعها للمرة التانية والتالتة أحبها". كان فيلم "لا تسألني من أنا"، والعمل المسرحى الوحيد "ريا وسكينة"، التى تألقت فيه شادية برفقة عبد المنعم مدبولى وسهير البابلي وأحمد بدير، وقدمت وجبة فنية دسمة من الغناء والكوميديا والتراجيدي على خشبة المسرح، لتكون مسك الختام للجمهور، الذي طالما اشتاق لرؤيتها دائما، إلا أنها قررت الاعتزال في عمر الخمسين عامًا، وابتعدت عن الإعلام لسنوات طويلة. ظهرت الفنانة المعتزلة فى لقاء نادر جدا عام 1994 مع الإعلامية هالة سرحان، لتروي سبب اعتزالها الفن، قائلة: جاء القرار في ثواني بعد الأغنية الدينية "خد بأيدي"، فوجت أني مش عارفة أحفظ الأغاني ومخي في الصلاة وقراءة القرآن، فقلت يا رب أعمل إيه فذهبت للشيخ الشعراوي لأتحدث معه فقلت له أنا مش عارفة أحفظ أي كلام للأغاني، وأريد أن أرتدي الحجاب فقال لي "أنسي أنك شادية المغنية، أنتي امرأه فاضلة عرفت طريق الحق تبارك وتعالي"، وبالفعل كانت هذه الكلمات بداية تحول شادية الحقيقي، ومن تلك اللحظة انقطعت سيرة شادية عن عالم الفن. ومن مقولتها الشهيرة عندما قررت الاعتزال وارتداء الحجاب: "لأنني في عز مجدي أفكر في الاعتزال لا أريد أن أنتظر حتى تهجرني الأضواء بعد أن تنحسر عني رويدا رويدا، لا أحب أن أقوم بدور الأمهات العجائز في الأفلام في المستقبل بعد أن تعود الجمهور أن يروني في دور البطلة الشابة التي عرفوها، والعجوز التي سوف يشاهدونها أريد أن يظل الناس محتفظين بأجمل صورة لي عندهم، لهذا فلن أنتظر حتى تعتزلني الأضواء، وإنما سوف أهجرها في الوقت المناسب قبل أن تهتز صورتي في خيال الجمهور"، وكرست شادية حياتها بعد الاعتزال لرعاية أطفال شقيقتها عفاف. بعد حوالى 30 عاما من اعتزالها، تعود شادية بنفس الصوت العذب الرقيق بتسجيل قصير يحمل صوتها فى حفل تكريم أكاديمية الفنون بمنحها الدكتوراة الفخرية عام 2015 لتقول «تربيت في مصر، تعلمت في مصر، بحب مصر، مصر باقية، وحشتوني.. يا حبيبتي يا مصر، شرف كبير أن أحصل على الدكتوراة من أكاديمية الفنون العريقة، ربنا يحميكي يا مصر وينصرك، وتحيا مصر».