استشهد باسل الأعرج. هكذا كان الخبر بكل قسوته. من كان يعرف باسلاً لم يكن ليفاجئه الأمر البتة؛ فالشهيد كان قد اختار هذا الطريق منذ اللحظة التي قرر فيها مقاومة الاحتلال بغير الطرق المعروفة. إذ يروي صديقٌ مشتركٌ حادثة أن باسلاً قرر في لحظة ما أن يقيم حاجزاً لتفتيش المستوطنين الصهاينة بالقرب من منزله بمقابل حاجز لقوات الإحتلال الصهيوني. كان الباسل مصراً على إقامة الحاجز وأقامه ولساعاتٍ طويلة ظل يفتش السيارات، وحتى بعد أن اعتقل إثر قيامه بذلك عاد وقام به غير مرة. كان يعتقد بأن المقاومة تبدأ بشكلٍ فعلي في العقل قبل أي شيءٍ آخر. لذلك كان باسل واضحاً إلى هذا الحد، ناجحاً إلى هذا الحد؛ شهيداً إلى أقصى حد. ميزة باسل الأعرج أنه ببساطة قدم النموذج المعاكس تماماً للفكرة المعهودة خلال السنوات المنصرمة الأخيرة حول الشباب الفلسطيني المقاوم. لم يكن الأعرج عضواً في تنظيمٍ كلاسيكي معتاد؛ لم يكن عضواً في خليةٍ سرية لحزبٍ سري، لم يكن مثقفاً هامشياً يجلس في أحد المقاهي، لم يكن موظف NGO، لم يُفتتن بالغرب إلى حد كراهيته لجلده وبني شعبه، وبالتأكيد الأهم أنه لم يعتبر أن الكفاح المسلّح أمرٌ "خشبي" ويستحق السخرية والتندّر. كان باسل –وهو أمرٌ ليس بنادر- مقاوماً على طريقته، عرف بأن السلاح ليس هو أول الكلام وآخره، بل إن السلاح زينة الرجال بمعنى أنه يستعمل حال احتياجه، لا في كل الأوقات. يأتي وقتٌ على المثقف عليه أن يستعمل ما حباه الله به: الوعي، البصيرة، وأكثر من ذلك "الرسالة" التي عليه تأديتها. الأمانة التي عليها إيصالها. لاحقاً قد تتغيّر الأحوال ويكون حمل البندقية هو الوسيلة والطريقة. حمل باسل البندقية بمواجهة كتيبة كاملة من الصهاينة، كتيبةٌ مدرّبة بشكلٍ أكثر من محترفٍ للقضاء على مقاتلين متمرسين وليس على شابٍ لم يتدرّب مرةً واحدةً بشكل "محترف" على استخدام السلاح. ولأن باسل هو هذا، ولأنه خرج في لحظةٍ لم تكن فيه مراكز Think Tanks والNGO's متحضرة له، كان من الطبيعي أن يتم تطبيق نظام "التخفيف" عليه. يتحوّل باسل إلى أيقونة مفرّغة، وكما تم تفريغ غيفارا (وهنا المثل ليس للمقارنة بل للإيضاح) وتحويله إلى أيقونة توضع على الثياب وأطباق الطعام، يتم تحويل باسل إلى أيقونة فارغةٍ من مضمونها الحقيقي. يصبح "حالة" فريدة من نوعها، حالةً لا يمكن تكرارها: يبدأ النفخ والتكبير لدرجة أنه يصبح "مقدساً". يصبح باسل خارج العادي والمعتاد والمألوف؛ الأمر غير القابل للتحقق والإعادة. يضحي الشهيد ههنا حلماً صعب المنال، لايمكن مناقشته: كل ما قاله مقدس، كل ما نطقه غير قابلٍ للجدال، وفوق كل هذا غير "عادي" البتة. إنه أيقونة المقدس غير البشري، إنه لا يمس. الأمر الأشد خطورةً والمقصود بشدة هو أنه برفع باسل إلى هذا المقام، وهو أمرٌ يعتقده كثيرون محموداً، فإن المقصود الحقيقي خلفه هو "عدم تكرار التجربة" وإشعار الأشخاص الذين قد يكونون في لحظةٍ ما أمام خياراتٍ مشابهةٍ لخياراته، بالضآلة أمامه، بصغر ما يفعلونه أمام ما حدث. هكذا لا يمكن تكرار التجربة التي قام بها باسل، والمراكمة عليها. هكذا يفشل كل ما آمن به الشهيد وكل ما يمثّله. يضحي باسل أيقونة مفرّغة، يرقص حولها أناس كاذبون، يريدون الإدعاء بحمل شعاراته. يسرق الشهداء منا؛ نحن العاديون الذي نعيش حياتنا العادية. نذهب إلى أعمالنا، ونربي أطفالنا ونعمل لأجل من نحب. لأننا نختار أن نقاوم لأجل من نحب. فهذا دورنا اليوم. قد يتغير دورنا غداً حين الحاجة لأن نكون في ذلك المكان (ولاريب أن أبرز تطبيق على هذا الكلام ما فعله المقدسيون خلال هبة المسجد الأقصى الأخيرة). نحن لسنا مقاتلين محترفين، ولسنا قتلةً مجهزين. نحن مجاهدون يوميون، ستجد وجوهنا حولك أينما طفت. لدينا أناس نحبّهم –كما باسل- نختار أن نعيش لأجلهم وأن نستشهد لأجلهم حال الحاجة. عاديون للغاية، يوميون للغاية؛ مثل باسل تماماً. لا أكثر ولا اقل. كاتب فلسطيني