ليس بدعا من الثورات أن تتلقى ثورة الهزيمة في مبتدأ أمرها، وأن ينحرف مسار الأحداث فيها بصورة دراماتيكية، تجعل الواقع يتراجع كثيرا عن الحلم الذي رسمه الناس في مخيالهم الجمعي، فالثورة، بعبارة روزا لوكسمبورج، هي النوع الوحيد من الحروب التي لا يمكنك تحقيق النصر النهائي فيها إلا بعد سلسلة من الهزائم. هذه العبارة ليست بالتأكيد دعوة للتشاؤم بقدر ما هي محاولة لتبيان طبيعة الثورات تستهدف عدم الاستغراق في الشعور بالخيبة واليأس التاليين للهزيمة، وهو ما لم يسلم منهما حتى فلاسفة بحجم هيجل الذي اتفق العديد من المفكرين أن أحد أهم كتبه: ظاهريات الروح ما هو إلا مرثية فلسفية تاريخية للثورة الفرنسية إثر ما اعتبره هزيمة لها. من هذه القاعدة يمكن الانطلاق لبناء رؤية نقدية "كانطية" لا تستهدف إدانة طرف أو تبرئة آخر، إنما تتطلع إلى نسق محدث للفهم يستحضر الأحداث الماضية دون الغرق فيها وإلى إمكانية جديدة للفعل تراعي الواقع البائس دون أن تفقد الأمل في المستقبل. ملامح الفترة الانتقالية: إذا ما استقرأنا الأحداث التالية لسقوط مبارك خلال الفترة الممتدة من تولي المجلس العسكري السلطة مرورا بتسليمه إياها جماعة الإخوان المسلمين ثم استرداده لها وإسقاطه حكم الجماعة؛ فباستطاعتنا أن نرصد أهم ملامحها على النحو الآتي: الملمح الأول تمثل في تنافس القوى السياسية على السلطة قبل انتزاعها بل منذ اللحظة الأولى التي تلت التنحي، وبدلا من إعلاء آليات التوافق عبر التفاوض والمساومة تبادل طرفا المعادلة السياسية من إسلاميين وعلمانيين التحالف مع الدولة العميقة ضد بعضهم البعض، ورغم أن الطرفين يشتركان في المسئولية عما آلت إليه الأوضاع بعدها، لكن من المنصف التأكيد على أن المشروع الأيديولوجي للإخوان المسلمين ما كان يسمح بأي نوع من التوافق، ومن ثم فقد تحركت القوى المتنافسة لا وفق اللعبة السياسية بل وفق لعبة الروليت الروسية، إما أنا أو أنت. الملمح الثاني يتعلق بشباب الحركات الثورية الذي عُني بالحديث باسم الثورة وعنها أكثر من العمل الجاد لتحقيق أهدافها، مستنزفين الحالة الثورية بدلا من استثمارها، فانخرطوا في الاستقطاب القائم ولم يُنشئوا تنظيما حقيقيا عندما سنحت الفرصة، وتعاملوا مع الثورة باعتبارها تظاهرة واعتصام، ومع السياسة على أنها إعلان مواقف، مطالبين الجماهير ألا تغادر الميادين والشوارع، وأن تظل تلهث خلفهم، بلا تخطيط أو رؤية محددة وواضحة؛ لهذا كله لم يتحولوا عن خانة رد الفعل إلى خانة الفعل، فكان طبيعيا أن يلزموا دور ال مفعول به في مواجهة فاعلين أقوياء بالداخل والخارج استعملوا ما تحت أيديهم من إمكانيات ومقدرات هائلة لإجهاض الثورة، والحيلولة دون أن تبلغ مراميها. الملمح الثالث متعلق بالثورة المضادة. كان من المنطقي في ظل حالة الاستقطاب السائدة بالساحة السياسية وعجز النخبة عن تحقيق أي نوع من التوافق يتيح تمرير المرحلة الانتقالية واقتناص السلطة، بجانب عدم مقدرة الحراك الثوري على إحداث تغيير جذري مكتفيا بإجراء تغيير محدود شمل الإطاحة ببعض رموز النظام، كان من الطبيعي في ظل تلك المعطيات أن تتعاظم قدرة النظام القديم على إعادة إنتاج نفسه عبر المؤسسة العسكرية التي امتلكت مقاليد الأمور بعد التنحي، بخاصة وأنه رغم محاولات مبارك إبعاد الجيش عن الشأن السياسي إلا أنه ظل متعلقا به ودعم هذا التعلق مؤسساته الاقتصادية التي كانت عرضة للخصخصة بفعل سياسات مجموعة جمال مبارك، وبتعبير ستيفن كوك فإن الجيش وإن لم يكن يحكم حينها فإنه كان يتحكم، أي أنه كان دوما على مقربة، ومن ثم لعبت المؤسسة العسكرية دور رأس الحربة للثورة المضادة، بعكس ما حدث في تونس التي كان لابتعاد الجيش فيها عن اللعبة السياسية بجانب قدرة النخبة التونسية على تحقيق حد أدنى من التوافق؛ العامل الأكبر في التقدم خطوة للأمام على طريق تحقيق أهداف الثورة، وذلك رغم اشتراك التجربة التونسية معنا في العامل الثالث وهو التغيير الثوري المحدود، وعدم التخلص من النخبة السياسية الحاكمة (في نظام بن علي). الملمح الرابع يتعلق بالتدخل الخارجي الذي لم يكن مدعوا في الحراك الثوري ب 25 يناير، فقد شكل حجم الحراك واطراده مفاجأة حتى لمن اشتركوا فيه، لذا اتسم رد الفعل الخارجي بالانتظار والترقب، بخاصة من جانب الولاياتالمتحدة، التي صادقت في النهاية على تنحية مبارك وتولي المجلس العسكري السلطة، والبدء في عملية سياسية تحافظ على النظام القائم لضمان استمرار سياساته في الملفات الهامة لواشنطن كملف العلاقة مع الكيان الصهيوني والتنسيق الأمني والاستخباراتي..، مثل هذه القضايا وجهت السياسة الأمريكية تجاه التغيير الواقع في مصر، ومن ثم لم تجئ مباركة البيت الأبيض لحكم الإخوان بمعزل عن سياساتها تلك، بل تماهت معها بعد تلقيها تطمينات إخوانية تؤكد استمرار النهج المباركي بتلك الملفات، وعلى خلاف 25 يناير وجهت الدعوات هذه المرة إلى الخارج ليكون حاضرا ولادة 30 يونيو لكن على غير العادة كان الحضور الخارجي عربيا بامتياز عبر السعودية والإمارات التي مولتا حركة "تمرد" ثم دعمتا، ومن ورائهما معظم دول الخليج، النظام الجديد سياسيا وماديا. هذه الملامح وإن شكلت المشهد الثوري لكني لا أتصور أنها قادرة على محاصرته داخل حدودها الضيقة، وأزعم أن 25 يناير وثورات الربيع العربي بصفة عامة تكمن في داخلها إمكانيات ربما لم يحن الوقت لتنتقل من عالم القوة إلى عالم الفعل، وبمطالعة تاريخ الثورات حول العالم فلست أجازف حين أتبني الرأي القائل أن الثورة تمتلك وعيها الخاص، لتحقق أهدافها بمنهجية قد تكون غائبة عن جماهيرها ونخبتها، كما لو أن الحدث الاستثنائي "الثورة" متقدم على وعيه، لكن هذا لا يعني أن يتأخر الوعي عن مسايرة الأحداث والدفع في اتجاهها، فلا أحد يأمن "خبث العقل الكلي المسيطر على التاريخ". ما بعد السيسي يرى روبرت دال أنه لا يمكن إرساء قواعد الديمقراطية في مجتمع يقع فريسة لحالة من الاستقطاب بطلاها فريقان "يرى كل منهما في انتصار الآخر خطرا كبيرا على قيمه العليا"، وربما هذا ما حدا بعالم الاجتماع الأمريكي "مايكل مان" أن يربط بين التحول الديمقراطي والتطهير العرقي في العديد من البلدان نتيجة لوجود قوميتين أو مجموعتين ثقافيتين تتنازعان السلطة، وقصر "مان" هذا النزوع على مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، مستبعدا حدوثه بين "الديمقراطيات المستقرة"، وبغض النظر عن صحة هذا الربط فإن المغزى المراد استخلاصه هو عدم إمكانية إرساء الديمقراطية السياسية باعتبارها منافسة ومشاركة وحريات سياسية ومدنية في مجتمع أسير لحالة الصراع الصفري. هذه الخلاصة تفضى بنا إلى نتيجة هامة، وهي تعذر قيام نظام ديمقراطي (بالمفهوم الأرسطي للديمقراطية أي التناوب على الحكم) في مجتمع لا تأمن قواه السياسية بعضها البعض، لذا يلزم الوصول إلى صيغ توافقية تضمن التزام جميع الأطراف باللعبة السياسية، وهو ما يستدعي قدرا من التنازل تقدمه كافة القوى، فالبديل سيكون استمرار الحكم العسكري للبلاد، وفي هذا الاتجاه يمكن أن نقترح عدة نقاط استرشادية تستطيع القوى السياسية أن تطورها إذا ما اختارت هذا المنحى التوافقي. أولا: حل جماعة الإخوان المسلمين، وأن يتخلى أعضاؤها عن أفكار التمكين لمشروع لا ترتئيه بقية القوى السياسية، وأن يتوزع أعضاء الجماعة أو ينشئوا ما عنى لهم من أطر تضمن لهم المشاركة السياسية وفق قواعد يتفق عليها جميع الفاعلين على الساحة. ثانيا: الاتفاق على آليات تحكم العملية الانتخابية يكون من شأنها ضمان عدم إتاحة الفرصة لأي من القوى السياسية أن تهيمن على السلطة، حتى وإن حازت على الأغلبية. ثالثا: الاتفاق على ضمانات تتيح للأقلية الانتقال من موقعها بجانب السلطة العسكرية إلى جانب القوى الديمقراطية. رابعا: اتباع نهج الباب المفتوح مع الفئات المتضررة من سياسات النظام العسكري، ومنها طبقة رجال الأعمال التي سيجري خلال الفترة المقبلة التضييق على نشاطاتها أكثر فأكثر لحساب طبقة جديدة من الضباط السابقين تحيط بالإمبراطورية الاقتصادية للجيش، ليتم بعدها إحلال هذه الطبقة محل الكيانات الاقتصادية القديمة التي تنتمي إلى عصر مبارك. هذه الرؤية ستواجه حتما عقبات عدة أهمها نخبة متصلبة شائخة مهزومة لم تكن يوما على مستوى الحدث، ومن ثم فمن الضروري أن تتولى صفوف الشباب زمام المبادرة، محاولةً أن تقدم نفسها بصورة مغايرة لما بدت عليه في المشهد الافتتاحي للثورة، وهذا يتطلب أن يتصدر لقيادة المرحلة المقبلة أصحاب القدرة لا أصحاب الصوت العالي، في محاولة للخروج من "الثقب الأسود" الذي أصبحت منطقتنا تكنى به في الدراسات السياسية المعنية بشئونها، بعد أن أضحى القديم فيها (والتعبير لغرامشي بتصرف) لا يموت والجديد لا يستطيع أن يولد. [email protected]