وما ذنب المكتبات؟.. تساؤل طرحه المحامي الحقوقي جمال عيد، مدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان صاحب فكرة إقامة سلسلة مكتبات تحمل اسم "الكرامة" في عدد من أحياء القاهرة الشعبية، عقب استمرار قرار إغلاق 3 من فروعها الستة لأكثر من شهر لدواع أمنية، ومن ثم حرمان آلاف الشباب والأطفال من المترددين عليها من الحق الطبيعي في المعرفة والقراءة والتعلم، بما يمكنهم من توسيع آفاقهم وزيادة وعيهم لإحداث التغيير الإيجابي والنهضة في مجتمعاتهم. لم يترك عيد بابًا إلا وطرقه من أجل استمرار الحلم القديم الذي طالما راوده منذ أن عرف طريقه إلى العمل الأهلي وخدمة المجتمع المدني، ومن هنا جاءت فكرة إقامة مكتبات في عدد من الأحياء النائية الفقيرة والمهمشة والأكثر احتياجا وعقد ورش الكتابة المجانية في داخلها عبر التنسيق مع عدد من الكتاب والأدباء والروائيين والصحفيين والفنانين لتدريب الشباب والأطفال القاطنين هناك على مهارات الكتابة والتدوين والرسم والرواية والتمثيل والصحافة والتصوير وتعلم أدب القصة القصيرة وتثقيفهم وغرس روح الابتكار وقيم الإبداع في عقولهم من أجل تعليمهم فنون التعبير والوصف منذ نعومة أظافرهم. زيارة مفاجئة المكتبات التي أسسها جمال عيد بأموال جائزة دولية حصل عليها من قبل مؤسسة رولاند بيرجر للكرامة الإنسانية في ألمانيا نوفمبر 2011 تقديرًا لدوره الحقوقي الجليل ونشاطه البارز في خدمة المجتمع المدني، لكن الحكومة والأجهزة الأمنية أغلقتها بعد قرار التحفظ على أمواله في القضية المعروفة إعلاميا ب"التمويل الأجنبي". ووجه عيد الدعوة للسفيرة مشيرة خطاب، المرشحة لمنصب مدير منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"؛ لزيارة "الكرامة" في أي من فروعها، بعد أن بح صوته في وسائل الإعلام وذهبت تدويناته عبر "السوشيال ميديا" أدراج الرياح، ونفدت مساعيه لفهم دواع الإغلاق، دون أن ينفد صبره أو يفقد أمله في فتح آفاق المعرفة أمام الآلاف من الشباب عبر هذا الملتقى الثقافي المجاني. وجاءت دعوة مدير الشبكة العربية ل"مرشحة اليونسكو" على أمل مساعدته في إعادة فتح أبواب المعرفة والثقافة والتدريب لآلاف الشباب المترددين عليها من جديد، وجاء في نص الرسالة التي وجهها عيد لمشيرة خطاب: "أمن الدولة قفل مكتبتين تانيين، ندعوك لزيارتها لتريها على أرض الواقع.. ماذا نفعل؟". وفوجئ عيد وأهالي حي دار السلام بزيارة السفيرة مشيرة خطاب للمكتبة مساء أول أمس الثلاثاء لتتعرف أكثر على المبادرة التطوعية الشعبية التي تشجع على القراءة، وتهتم بتنمية الوعي وغرس القيم والإبداع في أطفال مصر، ودخلت مباشرة على "أرفف" المكتبة لرؤية ما تحتويه من ممنوعات، وكتب تحض على العنف والكراهية كما روج بعض المغرضين، لكنها لم تجد سوى أشعار ورباعيات صلاح جاهين في حب مصر، وكتاب "شخصية مصر" لجمال حمدان ورواية "مولانا" لإبراهيم عيسى، ومعظم كتب بلال فضل، وسلاح التلميذ للأطفال، بالإضافة إلى "أورج" يعلوه التراب مُلقى فوق طرابيزة المكتبة، كان يتعلم عليه الأطفال العزف خلال حفلة الموسيقى اليومية قبل أن تصدر الأوامر الأمنية بالإغلاق المفاجئ. وعد مشيرة خطاب وقالت السفيرة مشيرة خطاب، المرشحة المصرية لمنصب اليونسكو، إنها تصفحت غالبية كتب مكتبة الكرامة بدقة تامة لأكثر من ساعة ونصف، وتفحصت أوراقها ولم تجد بها سوى رسومات متنوعة للأطفال، وكتب مدرسية وكتب أخرى تشجعهم على القراءة والرسم والتلوين، وأعلنت عن رضاها التام عن كل ما تحتويه المكتبة بهذا الحي الشعبي العريق من كتب التاريخ والروايات الأدبية والموسوعات الثقافية المؤثرة في تشكيل وعي الشباب والأطفال في هذه المناطق الفقيرة المحرومة من الخدمات المجتمعية. عدد من الأهالي تواصلوا مع السفيرة ونقلوا إليها الأضرار التي نتجت عن قرار غلق بعض الأفرع ل"الكرامة"، خاصة أنها كانت تجمع ذويهم ويستفيدون منها في استعارة الكتب والمذاكرة وتعلم ما يفيدهم دون مقابل مادي يذكر، بدلا من جلوسهم في الشوارع وعلى المقاهي وتناول المخدرات والمسكرات واللعب لساعات طويلة، ووعدت خطّاب الأهالي ببذل أقصى جهودها في سبيل إعادة فتح المكتبات، قائلة: "في الحقيقة أنشطة المكتبة محترمة، ويجب تشجيع مثل هذه المبادرات التطوعية الجادة، ومن الظلم إغلاق مكتبات الكرامة". #لا_لغلق_مكتبات_الكرامة زيارة السفيرة مشيرة خطاب لأحد أفرع مكتبات الكرامة، خطوة وصفها بعض المراقبين بالذكاء من ناحية، لإعادة فتح أبوابها من جديد ومساهمتها في إثراء الحركة الثقافية لأبناء المناطق الفقيرة خدميًا، ومن ناحية أخرى لرد الاعتبار لصاحب الفكرة الذي طالما عانى من التشويه عبر الأجهزة الأمنية. وبعد ساعات من الزيارة تصدر هاشتاج "#لا_لغلق_مكتبات_الكرامة"، قائمة الأكثر تداولا على "تويتر، وفيس بوك"، تحمل كتابات ودعوات وتدوينات المئات عن رفض قرار الإغلاق والمصادرة والحجر على حق الأجيال القادمة في المعرفة وممارسة مثل هذه الأنشطة الفردية والجماعية والاستعارة التي توفرها المكتبات فى الإجازات، والاستفادة من الورش اليدوية والفنية المجانية. وتتنوع أنشطة الورش في مجالات الرسم والمشغولات اليدوية الورقية ما بين الأورجامي والقص واللصق وتشكيل الصلصال وإعادة التدوير، والتواصل ونشر الأفكار والاهتمامات المشتركة بين جموع المترددين عليها صغارا كانوا أو كبارا، وكان يتمنى جمال عيد توسيع الأنشطة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني لتحويلها إلى مركز ثقافي على غرار ساقية الصاوي، وكان ينتظر دعما من قبل وزارتي الشباب والرياضة والثقافة أو الهيئات الحكومية الأخرى، لكن جاء الدعم هذه المرة بالإغلاق. طلعوا "الكرامة" بره اللعبة "مش هابطل أدافع عن حقوق الإنسان، طلعوا المكتبات برة اللعبة".. هكذا قال الحقوقي جمال عيد، موضحا أن الهدف الرئيسي من إغلاقها، الانتقام السياسي فقط والفجر في الخصومة الذي يمارس ضده من قبل الأمن الوطني الذي أغلق 3 مكتبات قائمة، بناءً على تعليمات أمنية دون صدور قرار رسمي أو إعلان أسباب الإغلاق. وأضاف عيد ل"البديل" أن دوره مع مكتبات الكرامة انتهى عند التأسيس دون تدخل في شيء، فقط يتكفل بالتمويل والمصروفات الخاصة بالإيجار والرواتب، وبعد ذلك يديرها الأهالي بحرية تامة ويشرفون على جميع أنشطتها المتنوعة حتى إن صاحب مكتبة الكرامة بدار السلام "نجار مسيحي" من أبناء المنطقة. وتابع عيد أن قرار الإغلاق يحرم أكثر من 40 ألف مستفيد من الخدمات التي كانت تقدمها مكتبات الكرامة في المذاكرة والاستعارة والقراءة والرسم والتدريب على مختلف الفنون وفي شتى المجالات بقرار ممهور من جهات أمنية عليا دون إبداء أي أسباب، بحسب تعبيره. تبرعات ب10 آلاف كتاب وجاءت جميع الكتب والروايات والموسوعات التي تحتويها مكتبات الكرامة، بحسب عيد، التي يزيد عددها على 10 آلاف كتاب، تبرعات من وزير الثقافة السابق الدكتور عماد أبو غازي، ودور نشر ميريت والشروق وعدد من الكتاب والإعلاميين ومن بينهم بلال فضل ومنى الشاذلي وهالة سرحان وغيرهم. وعبر التعاون مع إحدى منظمات المجتمع المدني المهتمة بنشر الصحافة المجتمعية في المناطق الشعبية وتدعى "باشكاتب"، تم إصدار مطبوعة ورقية جديدة باسم "صوت السلام" لنشر أخبار الحي الشعبي ونقل أفكار المواطنين وهمومهم ومشاكلهم، وعرض أعمال الشباب الفنية بعد عقد دورات تدريبية لهم على فنون الصحافة والكتابة الإبداعية والتصوير والرسوم الكاريكاتورية لرواد المكتبة، ممن تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاما. وأثمرت الجهود في فبراير 2014 حين نجح القائمون على مكتبة الكرامة في منطقة دار السلام من إقامة أول معرض للتصوير الفوتوغرافي خاص بالأطفال تحت عنوان "دار السلام في عيون الأطفال"، ومن خلاله تم عرض مجموعة من الصور التي التقطها أطفال حي دار السلام من مناطق متفرقة من الحي. وكان زوار مكتبات الكرامة في تصاعد مستمر من شهر لآخر، وكل يوم يتردد عليها زائرون جدد في فروعها المختلفة، حتى وصلت أعدادهم في نوفمبر الماضي فقط نحو 4100 شاب وطفل، لكنهم سرعان ما وصلوا إلى الرقم صفر قبل نهاية العام الماضي عقب قرار الإغلاق الأمني المفاجئ.. ويبقى السؤال: من المستفيد من غلق أبواب الثقافة والمعرفة؟ قال المحامي الحقوقي نجاد البرعي: عندما يخصص ناشط حقوقي معروف جائزة دولية حصل عليها من أجل إنشاء مكتبات عامة في مناطق فقيرة محرومة من هذا النوع من الخدمات الثقافية المجانية، فإن جهوده يتعين على الجميع تشجيعها وليس محاصرتها، مضيفا أن قرار إغلاق مكتبات الكرامة يؤكد أن الدولة تحتاج التوقف لمراجعة نفسها من جديد كي تري معالم الطريق الخاطئ الذي تسلكه، قائلًا: "لا يحارب الثقافة إلا المستبدين". ومازال الأمل يراود الجميع في عودتها، بحسب الكاتب والأديب إبراهيم عبد المجيد، صاحب ثلاثية الإسكندرية الذي ذكر أن الأمل قائم في إعادة فتحها من جديد، وما حدث من إغلاق للمكتبات لا يخطر علي عقل بشر، قائلًا: "غلق المكتبات عمل همجي لم يفعله إلا الغزاة قطاع الطرق الذين قاموا بحرق الكتب في العصور الوسطى". 6 مكتبات عامة تحمل اسم "الكرامة" تمكن عيد بمشاركة منظمات المجتمع المدني من تأسيسها في مناطق متفرقة من القاهرة في أحياء طرة ودار السلام والخانكة وعين الصيرة وبولاق، بالإضافة إلى مكتبة وحيدة بمدينة الزقازيق في محافظة الشرقية، قررت الأجهزة الأمنية الشهر الماضي إغلاق 3 مكتبات بالقاهرةوالزقازيق والخانكة، وباقي الفروع تم إغلاقها طواعية خوفًا من المداهمة وتم منح العاملين بها إجازة مفتوحة لحين إعادة الفتح أو الإغلاق النهائي.