ترك لنا الأديب يحيى حقي، إرثا روائيا كبيرا، تضمن روايات عدة منها "البوسطجي"، "تراب الميري"، "سارق الكحل" وغيرها الكثير، لكننا سنتأمل واحدة من رواياته التي تناول فيها الصراع القائم منذ الأزل بين الحضارة الشرقيةوالغربية، وهي "قنديل أم هاشم" التي تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة شكري سرحان وسميرة أحمد وأخرجه كمال عطية. تدور أحداث الرواية حول إسماعيل الشاب الذي أنهى دراسته الثانوية ثم انتقل بعدها إلى أوروبا لدراسة طب العيون، ليعود بعدها من هناك طبيبًا لمداواة مرضى العيون، لكن عند عودته تصاب ابنة عمه فاطمة بمرض في عينها، فلا تجد والداته أمامها سوى زيت قنديل مقام السيدة زينب الذي يعتقد جميع قاطني الحي أن به نوعًا من البركة يشفي المرضى، فيفحص عينها ليجد أن زيت هذا القنديل تسبب لها في ضرر كبير لعينها بدلًا من أن يشفيها. غضب إسماعيل من طريقة والدته في علاج ابنة عمه وهاجم أهله، معتبرًا أن ما فعلوه مجرد خرافات لا علاقة لها بالشفاء من أي مرض خصوصًا بعد إطلاعه على الحداثة والمدنية التي وصلت إليها الحضارة الأوروبية، وبعد افتتاح عيادته لعلاج أهل حيه يكتشف أنهم لا يتماثلون للشفاء من الأمراض بطريقة سريعة، فيبحث خلف ذلك ليجد أن هذا القنديل عدوه اللدود دائمًا، فيحطمه ويصطدم بشكل مباشر مع أهله ومرضاه الذين اعتبروه خرج عن الدين بفعلته ويبدأون في البعد عنه. يفشل إسماعيل في علاج فاطمة ويتوالى الصراع في القصة، فيضطر إلى أن يقيم في فندق "مدام إفتالي" ليرى المعاملة البذيئة، ويبدأ في إعادة التفكير فيما آل إليه حاله، ويقرر في النهاية العودة إلى عيادته من جديد ليتأقلم مع المعتقدات السائدة في حيه بما فيها زيت القنديل الذي يحاول استخدامه لعلاج فاطمة من مرضها ماضيًا بذلك عقد تصالح مع أهله. المتتبع للرواية يجد أن يحيى حقي، ركز بشكل كبير فيها على الصراع بين الأصالة والمعاصرة متمثلًا في القيم الشرقية مقابل الحضارة الغربية التي يطغي عليها الطابع العملي والمال ولا تضع أي اعتبارات للقيم، حيث لجأ الكاتب إلى استخدام شخصيات رمزية للتعبير عن فكرته؛ فالقنديل هو رمز إلى العادات والتقاليد الموروثة منذ مئات السنين، في حين أن إسماعيل يعد الشخص الذي يمثل أوروبا بقيمها الحديثة التي ستصطدم بالواقع القائم منذ وقت طويل. وفي شخصيات القصة، سنجد أن حقي لجأ إلى استخدام شخصية فاطمة ابنة عم إسماعيل التي تحبه وتنتظره ليخلصها من مرضها بالرغم من علاقتهما الفاترة، وأنها ليست فائقة الجمال، إنما مجرد شخصية عادية، إلا أنه يقرر في النهاية أن يرتبط بها وأن ينتشلها من مرضها، حيث ترمز فاطمة إلى مصر التي تنتظر أبناءها لينتشلوها من غيابات الجهل والتخلف، وفي هذا دلالة على أننا كمصريين رغم أن نظرتنا إلى وطننا ليست دائمًا جميلة، إلا أننا لن نقدر أن نتخلى عنه وقت احتياجه لنا، ومن خلال الأحداث سنجد أن محاولات إسماعيل المستمرة لأن يشفي فاطمة بالضبط مثل محاولات شباب مصر بذل كل ما في وسعه لتحقيق التقدم لبلده. وحاول حقي أن يوصل رسالة معينة في روايته إلى القارئ، منها الازدواجية في الشخصية المصرية الشرقية ممثلة في "درديري" خادم ضريح أم هاشم، فهو خادم لضريح واحدة من آل البيت، فمن الطبيعي أن يكون على قدر عالي جدًا من التدين المتوافق مع عمله، إلا أنه في نفس الوقت تجده سكيرا ويتعاطى الحشيش ويعيش حياة الشهوات، ليظهر للقارئ مدى التضاد الذي تحمله بعض الشخصيات الشرقية التي تدعي التدين الظاهري، لكن في حقيقة الأمر، الدين آخر ما تفكر فيه. وعبر شخصيات الرواية، عرض حقي الصراع الفكري بين الحضارة الشرقيةوالغربية؛ فعلى سبيل المثال، الأب الشرقي وافق على مضض أن يدرس ابنه الطب في أوروبا، لذلك حين رفض إسماعيل زيت القنديل انتقد والده ما تعلمه في أوروبا، واعتبر أن ابنه عاد إليه كافرًا، وأيضا في شخصية ماري البريطانية زميلته في الجامعة التي علمته الانفتاح على الحضارة الغربية، لكنها في الوقت نفسه رفضت عطفه الدائم على الفقراء، أضف إليها شخصية مدام إفتالي التي كل مايهمها في الحياة المال، فمثل هذا الثنائي دليلًا على مساوء الحضارة الأوروبية.