حلَّق طائر الفوضى فوق سماء تلك السلطنة البعيدة المجاورة لبلاد الواق واق "إيجي ستان". لم يلتفت إليه أحد وهو يقترب أكثر فأكثر، لتسقط السلطنة في هوة ما أسماه المفكر اليساري الكبير جلال العظم "الهزيمة المتوالدة" الهزيمة التي تردُّ على كل هزيمة بمثلها، حتى الوصول إلى القاع.. ثم تكون الفوضى العظيمة. (1) حاكم "إيجي ستان كان قزما مريضا بالبارانويا (هذيان يجمع بين مشاعر العظمة والاضطهاد) يرى نفسه حكيما مؤيدا من السماء وعلى كل من في الأرض الاستماع إليه وتدبر أحاديثه، فهو لا ينطق عن الهوى كغيره من البشر بل عبر "فلاتر" يخرج منها الكلام خاليا من الشوائب. تخدمه حاشية دأبت على مداعبة نرجسيته وتدليك ذاته المتضخمة، فصوَّرته هبة من العناية الإلهية بعثتها رحمة بالبلاد والعباد، وتماهيا مع هذه الصورة قسَّم الحاكم القزم مواطنيه إلى قسمين: مواطنين صالحين يسبحون بحمده ويقدسون له، وآخرين من أهل الشر يترصدون لكل أعماله ومشروعاته ليفشلوها. وكان أن بشَّر القزم قبل اعتلائه كرسي السلطنة شعب "إيجي ستان" بأنَّ بلدهم ستكون سيدة الدنيا، فصدَّقه الناس، وفرحوا قبل الهنا بسنة، ومرت السنة والسنتان من حكمه فاستحالت السيدة إلى شحَّاذة تتسول حاجات أبنائها عبر المعونات والقروض بعد أن ضيع سلطانها مقدرات بلاده على مشروعات ضخمة غير ذات جدوى، كان أبرزها مشروع الحفرة العظيمة. ابتلعت الحفرة آمال الناس في مستقبل يخاصم الماضي البائس والحاضر الأكثر بؤسا، وتغيرت لهجة السلطان فبعد أن كان حديثه وعود وعهود تحوَّل إلى صدود وآلام، وسُلمت البلاد لعصابات تتصارع فيما بينها على الغنيمة، وضاق الناس بحالهم، وندم الكثيرون منهم على مساندتهم السلطان الدَّجَّال في سعيه للوصول إلى السلطة، لكن على المكتوب ما يفدش ندم! (2) ضجر الناس وازداد سخطهم بمرور الأيام، وفقدت ألعاب الحواة والنصابين التي مارسها النظام السلطاني للخداع فاعليتها، فتفتقت قريحة أحد رجال الحاشية عن فكرة تناسب ذهنية رجال العصابات، وهي السماح بدخول الأموال القذرة إلى البلاد للتغطية على عريها الاقتصادي وضياع الفرص الواحدة تلو الأخرى، من معونات بلغت عشرات المليارات من الدولارات إلى أموال جمعها السلطان من شعبه إلى غير ذلك. رغم تناحر العصابات الحاكمة فيما بينها لكن المصلحة جمعتهم على غسيل الأموال، فالجنرال المنبوذ المبعد بأمر السلطان لتطلعه إلى كرسي الحكم، والذي أشاع حساده أنه كبر بقى وقاعد في البيت، أدخل إلى البلاد من 70 إلى 80 مليار دولار، بموافقة العصابات الحاكمة وبضمانتها، إذ الجهات الممولة احتاجت مؤسسة موثوقة تضمن لها استرداد أموالها، ووضع السلطان أخيه على رأس الجهاز المعنى بمراقبة عمليات غسيل الأموال لضمان سرية الموضوع، وإن كانت حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها بلاد "إيجي ستان" ردعت هذه الجهات عن ضخ مبالغ أضخم. (3) السلطان المجنون وحاشيته الإجرامية أسقطوا شعب "إيجي ستان" سهوا أو ربما عمدا من حساباتهم، وشجعهم على ذلك نخبة كثيرا ما كان السلطان يستدعي رموزها إلى مجلسه ليعبث بهم عبث الخلفاء قديما بغلمانهم، ويستسلم الشعب لمصيره استسلام أبطال أو ضحايا رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" الذين ائتمنوا أبو الخيزران المهرِّب على أنفسهم ليعبر بهم الحدود فخبأهم في خزان سيارته، وعند إحدى النقاط الحدودية استغرق في حكاية مغامراته الجنسية المتخيلة لعساكر النقطة مع أنَّه كان خصيا ونسى من صحبهم معه فماتوا اختناقا خوفا من أن يدقوا الخزان! غسيل الأموال كان كفيلا بأن يدمر البقية الباقية من اقتصاد مخرَّب في الأصل، فأطاح بإمكانية المنافسة مع المستثمرين المحليين الجادين، وأدى إلى انخفاض سعر العملة الوطنية وزاد من نسبة التضخم بصورة مرعبة سحقت تحت ثقلها المخيف الطبقات الفقيرة، وبالتبعية زادت الفجوة بين طبقة تملك وتحكم وطبقة تخدمها حتى الموت بلقمتها. (4) القصة نهايتها معلومة من التاريخ بالضرورة، ثورة جياع تراوح بين الخراب التَّام وبين بداية جديدة تقطع مع نظام مُتْحَفِي ما عاد له وجود إلا في تلك البقعة من العالم، حيث بلاد ألف ليلة وليلة، وعلي بابا والأربعين حرامي الذين تكاثر عددهم فأصبحوا بالمئات بل بالآلاف وصاروا حكاما للدولة أما مواطنيها فمازالوا أسرى للعنة حكى لنا عنها الفيلسوف الأمريكي سانتيانا: من لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم حتى القيامة بأن يكرروا أخطاء أسلافهم!. [email protected]