توفي مساء أمس رئيس كوبا السابق فيدل كاسترو، والذي ظل حاكمًا للبلاد طيلة 32 عامًا، بعد صراع مع المرض وتولى أخوه الأصغر راؤول كاسترو، مهامه في عام 2008، لكن فيدل ظل محتفظًا بلقب «الزعيم الأسطوري» لكوبا، ولشيوعيي العالم أجمع. بينما كانت الأنظمة الشيوعية تسقط واحدة تلو الأخرى حول العالم، صمد فيدل كاسترو، الزعيم الكوبي وحافظ على أعلام بلاده مرفرة في مواجهة عدوه الأول الولاياتالمتحدةالأمريكية، فنجح خلال 45 عامًا أمام الحصار الأمريكي الاقتصادي الذي فرضته واشنطن على بلاده، وأمام عشرات المحاولات الأمريكية لاغتياله، واستمر في النضال حتى بعد سقوط كافة الأنظمة الشيوعية واليسارية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي. ولد كاسترو عام 1926 لعائلة ثرية، بيد أنه تمرد منذ صغره على حالة الرفاهية وسعة العيش التي كان يعيشها بعدما صدم بالتناقض الكبير بين الترف في أحضان عائلته وبين قسوة العيش والفقر في مجتمعه. التحق بجامعة «هافانا» عام 1945 لدراسة القانون وعمل بعد ذلك في مكتب للمحاماة، لكن «فيدل»، كان طموحا، وخطيبا شرسًا متأثرا بالفكر الماركسي، وكان يرغب في الحصول على عضوية البرلمان الكوبي، إلا أن الانقلاب العسكري الذي قاده «باتيستا»، المدعوم من قبل الولاياتالمتحدة وحلفائها ألغى الانتخبات والبرلمان. وظل فيدل في تلك الفترة متعطشًا للحرية والعدالة الاجتماعية، ثائرًا على نظام «باتيستا» ليقود إلى جانب رفاقه من الشيوعيين الكوبيين عملية استهدفت ثكنة عسكرية راح نتيجتها 80 من أتباعه وألقي القبض عليه وصدر ضده حكم بالسجن 15 سنة، قبل أن يطلق سراحه سنة 1955، وينفى إلى الميكسيك. لا يمكن الحديث عن كاسترو، دون ذكر رفيق دربه أحد رموز اليسار أرنيسطو تي جيفارا، فبعد الإفراج عن كاسترو، هرب الأخير إلى المكسيك بصحبة أخيه، وصديقه جيفارا، للإعداد للحرب على نظام باتيستا، ليعود مع أكثر من 80 مسلحا بسفينة إلى كوبا في الثاني من ديسمبر 1956، لكن قوات باتيستا تصدت لهم وقتلت بعضهم، واعتقلت آخرين، بينما فر كل من كاسترو وشقيقه وجيفارا إلى سلسلة جبال سييرا مايسترا على طول الساحل الجنوبي الشرقي لكوبا، ومن هناك كوّنوا مجموعة مسلحة، وخاضوا حرب عصابات على حكم باتيستا. وبعد توسع حركة التمرد وتحكمها في عدد من المدن والقرى، شكّل كاسترو حكومة بديلة بالموازاة مع تواصل الحملات العسكرية على حكم باتيستا حتى انهار وفرّ في الليلة الأخيرة من عام 1958 إلى جمهورية الدومينيكان. تولى كاسترو بعد ذلك منصب القائد العام للقوات المسلحة في الجيش، بينما شكل خوسيه ميرو كاردونا حكومة جديدة، وبعد أسابيع استقال ميرو، وأدى كاسترو اليمين الدستورية رئيسا للوزراء، وقد اجتذبت مبادئ كاسترو الثورية تأييدا واسعا في كوبا، وتمكنت قواته في عام 1959 من الإطاحة بباتيستا الذي أصبح نظامه يرمز إلى الفساد والتعفن وعدم المساواة، تسلم كاسترو سدة الحكم وسرعان ما حول بلاده إلى النظام الشيوعي، لتصبح كوبا أول بلد يعتنق الشيوعية في العالم الغربي. وفي 16 أبريل 1961 أعلن كاستروا رسميا كوبا دولة اشتراكية، وبعدها بخمسة عشر عامًا انتخبت الجمعية الوطنية (البرلمان) كاسترو رئيسا للبلاد، وبات واحدا من قادة دول عدم الانحياز، رغم علاقاته القوية مع الاتحاد السوفيتي، لكن سقوط الأخير اضطره لإبداء بعض المرونة وفتح الباب جزئيا للاستثمارات الأجنبية. عداؤه لأمريكا تعرض كاسترو لعدد من محاولات الاغتيالات والقتل، ومن التدخلات الأمريكية، وتحول الرجل إلى مثال أمام بلدان وقيادات أخرى في أمريكا اللاتينية وغيرها، وربما يكون الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز، أبرز مثال على اقتفاء أثر كاسترو في سياسة المواجهة والتحدي، وذكرت عدة تقارير استخبارية أن الولاياتالمتحدة حاكت أكثر من 600 مؤامرة لاغتيال كاسترو، إلا أنه ظل في موقعه بينما تعاقب على حكم الولاياتالمتحدة 9 رؤساء. بدأ تاريخ الخلافات والعداء بين الولاياتالمتحدة وكاسترو عندما أسقط الأخير الرئيس الموالي لواشنطن وأخذت العلاقات في التدهور عندما قام كاسترو بتأميم الشركات الأمريكية في كوبا، وفي أبريل عام 1961 حاولت الولاياتالمتحدة إسقاط الحكومة الكوبية من خلال تجنيد جيش خاص من الكوبيين المنفيين لاجتياح جزيرة كوبا، وتمكنت القوات الكوبية في خليج الخنازير من ردع المهاجمين وقتل العديد منهم واعتقال حوالي ألف شخص. بعد ذلك بعام واحد، بدأت أزمة الصواريخ السوفيتية الشهيرة التي كادت أن تجر العالم إلى حرب ذرية، وبدأت الأزمة عندما وافق كاسترو على نشر صواريخ روسية نووية في بلاده على أعتاب الولاياتالمتحدة. ومنذ ذلك الحين أصبح كاسترو العدو رقم واحد بالنسبة لأمريكا، واستنادا إلى مذكرات الزعيم السوفيتي آنذاك نيكيتا خروتشوف، فقد ارتأى الاتحاد السوفيتي أن ينشر صواريخ بالستية في الجزيرة الكوبية لردع أي محاولة أمريكية لغزوها، مما جعل الولاياتالمتحدة تشعر بالتهديد المباشر، إلا أن الأزمة لم تطل كثيرا في أعقاب توصل الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي إلى تسوية يزيل من خلالها الاتحاد السوفياتي صواريخه مقابل تعهد أمريكي بعدم غزو كوبا والتخلص من الصواريخ الأمريكية في تركيا. وفي عصر الحرب الباردة ساند كاسترو، الكثير من دول العالم الثالث، فاعتبر أحد النجوم اللامعة في ذلك العهد، حيث أرسل 15 ألف جندي إلى أنجولا عام 1975، لمساعدة القوات الأنجولية المدعومة من السوفييت، وفي عام 1977 أرسل قوات أخرى إلى إثيوبيا لدعم نظام الرئيس الماركسي مانجستو، لكن ظل كاسترو يواجه الحصار الاقتصادي الأمريكي المفروض عليه ويلقي باللوم في المصاعب الاقتصادية على الحظر الاقتصادي الذي فرضته واشنطن وحلفاؤها على كوبا، كما أثر انهيار المعسكر الاشتراكي عام 1991 كثيرا على أوضاع كوبا خاصة الاقتصادية، إلى أن استفاقت كوبا سريعًا وتمكنت من التقليل من آثاره. خطاب التنحي استقال فيدل كاسترو من منصبي رئاسة الدولة والقيادة العامة للقوات المسلحة الكوبية، في 19 من شهر فبراير 2008، وقال في رسالة للشعب الكوبي: «سوف أخون ضميري إن أنا قبلت تحمل مسؤولية تتطلب الحركة والتفرغ والتفاني بشكل كامل، فأنا لست في حالة صحية تمكنني من بذل هذا العطاء». ورغم خلافة شقيقه راؤول له في رئاسة البلاد والقوات المسلحة وزعامة الحزب الشيوعي الحاكم، إلا أن فيدل كاسترو لم يغب عن الأخبار خلال السنوات الأخيرة، سواء بمقالاته التي دأب على نشرها أو بتعليقاته على التطورات المحلية والدولية، ففي شهر يونيو عام 2008، انتقد كاسترو ما وصفه ب"النفاق الكبير" وراء قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات الدبلوماسية المفروضة على كوبا مقابل مطالبة الحكومة الكوبية بتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان. عودة إلى الأضواء الزعيم الكوبي رغم اختفائه أكثر من عامين، عاد مرة أخرى إلى الأضواء في الشهر الثامن من عام 2010 عندما ألقى خطاباً أمام جلسة استثنائية للبرلمان الكوبي حذر فيه الرئيس الأمريكي من مغبة شن حرب نووية على إيران، وفي شهر أبريل 2011، ظهر من جديد إلى جوار شقيقه الرئيس الحالي راؤول كاسترو، في المؤتمر العام للحزب الشيوعي الكوبي الذي عقد في العاصمة هافانا، وقد أدان فيدل كاسترو في أكتوبر من عام 2011 حلف شمال الأطلسي "الناتو" لدوره في الإطاحة بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، قائلا إن "هذا الحلف العسكري المتوحش قد أصبح أكثر أدوات القمع غدرا في تاريخ البشرية". وفي الخامس من فبراير من هذا العام حضر كاسترو، حفل توقيع مذكراته التي صدرت في كتاب من نحو ألف صفحة، وتضمن محطات أساسية في حياته منذ الطفولة إلى تصدره الثورة الكوبية، والفترة الطويلة التي أمضاها في رئاسة البلاد وزعامة الحزب الحاكم، بالإضافة إلى فترة مرضه وما بعد تنحيه عن الحكم.