بدأت عدوي يقظة مصر الثانية بالانتقال إلي تونس حيث يبدو 'الإخوان المسلمون' بقيادة راشد الغنوشي يكررون نموذج التمسك بأواصر السلطة الذي تبناه 'الإخوان المسلمون' في مصر وبلغ 'خطاً أحمر' يعد بالمواجهة. وها هي تونس التي أطلقت شرارة الانتفاضة الأولي لما سمي 'الربيع العربي' تسير علي خطوات مصر التي أطلقت إصلاح ما أسفرت عنه الثورة الأولي وذلك في انتفاضة ثانية تحمل في طياتها وعد اليقظة الدائمة وليس الاحتجاج العابر. هذه تطورات إيجابية مهما كانت صعبة وخطيرة. فالأخطر كان بالتأكيد في الرضوخ لإملاءات 'الإخوان المسلمين' في السلطة التي لم يتقنوا أبداً ممارستها، ففشلوا. أثاروا النقمة علي أساليبهم في الحكم والخوف من العيش في ظلهم وهم يمتلكون القرار – وهذه شهادة واضحة علي فشل لربما هو الأسرع في تاريخ صعود حزب أو حركة إلي السلطة. تطورات مصر وتونس غطّت علي الحدث السوري الذي يترنح بين المعارك الهادفة إلي السيطرة العسكرية وبين الاستعداد لمؤتمرات قد تفرض التنازلات السياسية. أما ما يحدث في العراق فإنه النار تحت الرماد بما يهدد بتنفيذ تقسيم العراق أو شرذمته، مع العلم أن رئيس الوزراء نوري المالكي لم يتقن الأداء في السلطة وساهم في توريط البلاد في صراع طائفي يُخشي أن يتحول دموياً بامتياز. لربما شبه الواحة في تطورات الساحة العربية هو تعهد الولاياتالمتحدة بإنجاز المفاوضات علي الوضع النهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين في غضون تسعة أشهر وسط تشاؤم يجعل سقف التوقعات منخفضاً ما قد يسنح الفرصة للمفاجآت. ولربما يأتي الدور الأميركي القيادي في الملف الفلسطيني – الإسرائيلي ليكون الوحيد في مسيرة الامتناع التي يتبناها الرئيس باراك أوباما عن الانخراط في سورية والاضطرار إلي التنبه إلي ما يحدث في مصر وتونس لاحقاً. فالسبات ما زال سيد الساحة في ليبيا، فيما الإطلالة بين الحين والآخر علي ما يحدث في لبنان لا تمثل أبداً دوراً قيادياً للولايات المتحدة. حتي الاتحاد الأوروبي جملة وتفصيلاً، مجموعة وأفراداً، يهرب إلي الأمام انتظاراً للقيادة الأميركية أو تذرعاً بغيابها. وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، ذهبت إلي مصر جاهزة للاستطلاع وللتشديد علي الديموقراطية بمفهومها الأوروبي وليس بمفهومها التاريخي والعصري من منطلق التجربة المصرية. لذلك، فإن الدور الأوروبي وكذلك الدور الأميركي في مسيرة الانتقالية العربية يتطلب تطويراً ينطلق من فهم عميق لليقظة العربية الجديدة. الغرب متهم دائماً بالتخطيط المسبق للخريطة العربية، والسؤال الذي يطرح دائماً يدخل في فلك ماذا تريد الولاياتالمتحدة وماذا يريد الغرب؟ روسيا والصين جديدتان علي هذه المعادلة في الفكر السائد عربياً. أن يقال إن كل ما يحدث في ساحة الشرق الأوسط هو تنفيذ لمخطط أميركي بالتأكيد سذاجة، بل هو تحقير لدور الفرد والمجتمع في الشرق الأوسط في صنع التاريخ. إنما من السذاجة أيضاً أن يقال إنه لا دور للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول الغربية في صنع التاريخ الحديث إلي اليوم، أو أن يقال إن روسيا والصين هامشيتان في رسم خريطة الشرق الأوسط اليوم. فهذه المنطقة ليست منطقة مؤسسات. إنها ساحة الحكم، إما العسكري أو الثيوقراطي. وما يحدث اليوم هو معركة مصيرية من أجل الحكم المدني بمؤسسات. هذا هو التعريف الضروري للديموقراطية العصرية في منطقة الشرق الأوسط الذي يجدر بالذين يحاضرون باسم الديموقراطية الغربية أن يفهموه. ما يحدث في تونس – قبل الحديث عن حدث مصر المصيري – هو أن حركة 'النهضة' الإسلامية التي يترأسها راشد الغنوشي وتقود الائتلاف الحاكم في تونس تبدو مُدهَشة إزاء انهيار جبروت 'الإخوان المسلمين' في بلد كمصر. الغنوشي اعتاد في السنتين الماضيتين أن يكون نجم المؤتمرات الدولية الساطع ووجه الاعتدال الإسلامي الذي تلقاه الغرب بشغف واحتضان وابتهاج. كان الغنوشي بقامته القصيرة وابتسامته شبه الدائمة يجتذب المعجبين به خارج تونس في الوقت الذي كان يمارس صلاحيات فوق العادة داخل تونس وهو يقبض علي مفاصل السلطة عبر 'النهضة' من مقر له تميّز بالترف والجاه مقارنة مع مقار الدولة. اليوم يرد الغنوشي علي مطالب الشعب والمعارضة وأفراد في حكومته بالإصلاح الجذري بلغة 'الخط الأحمر' ويتحدث بلغة الشرعية لاحتواء الحلول المقترحة. قال: 'نحن مع اعتبار المجلس الوطني التأسيسي خطاً أحمر لأنه أصل الشرعية، وما عدا ذلك نحن منفتحون علي التوافق' موضحاً أن حركته مع الحوار، ومع الوحدة الوطنية، ومع التوافق. اغتيال المعارض محمد البراهمي بعد اغتيال المعارض شكري بلعيد هو الذي أطلق الصرخة لبدء التمرد علي الحكم في تونس في عهد 'النهضة' طالبت المعارضة بحل المجلس التأسيسي والمؤسسات المنبثقة عنه، إشارة إلي الحكومة والرئاسة، بعدما مارست 'النهضة' الهيمنة علي المجلس التأسيسي. هذا المجلس انبثق عن انتخابات 23 تشرين الأول 'أكتوبر' 2001 التي فازت بها 'النهضة' الإسلامية ب89 مقعداً وهيمنت عليه عبر تحالفات مع حزبين آخرين. الأحزاب المعارضة تقول إن المجلس التأسيسي فقد شرعيته رداً علي إصرار 'النهضة' علي أنه المؤسسة الشرعية الوحيدة. وتدعو المعارضة المتمثلة في 'جبهة الإنقاذ' إلي تشكيل حكومة إنقاذ وطني من شخصيات مستقلة مهمتها توفير الظروف المناسبة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة. حركة 'النهضة' ترفض الاقتراح. فهي تري أن الانتخابات لعام 2011 هي قطارها إلي التمسك بالسلطة، ولن تتخلي عما تملكه الآن من أدوات. لذلك، ترضي بفكرة توسيع الحكومة الحالية والحوار في شأنها، لكنها ترفض المس بالمجلس التأسيسي باعتباره لها 'خطاً أحمر' مهما كلف الأمر. مهما كابرت حركة 'النهضة' ومهما تخيّل الغنوشي أنه محمي بنجوميته في الغرب، فإن تونس لن ترضخ للإملاءات ولا للأخطاء التي ارتكبها 'الإخوان المسلمون' وأمينهم العام راشد الغنوشي، وهم يمارسون الحكم. تونس مُقبِلة علي التمرد مثلما تبنت مصر التمرد علي 'ثيوقراطية' حكم 'الإخوان المسلمين' ما لم يستوعب الغنوشي حجم الحدث ويكف عن التحدث بلغة 'خط أحمر' رداً علي محاولات الخروج من المأزق السياسي. حركة 'الإخوان المسلمين' أَدخلت نفسها في نفق مظلم أولاً، لأنها صادرت ثورة الشباب في مصر 'وتونس' واعتبرت الانتخابات صكّاً أبيض لها للاستيلاء علي جميع مفاصل السلطة. وثانياً، لأنها تصرفت بجشع الحكم فنسيت ضرورة أساسية من الديموقراطية وهي الفصل بين السلطات في الحكم من أجل الاستقلالية والنزاهة وعدم الإقصاء. وثالثاً، لأنها رفضت الاستماع إلي أصوات الاحتجاج للإصلاح التي خرجت في تظاهرات ضخمة في مصر. وتعالت علي المطالب. ورابعاً، لأنها أساءت قراءة الشعب ولم تتأقلم معه بعدما أوضح لها ما يريد وما لا يريد. وخامساً، لأنها رفضت المشاركة في خريطة الطريق التي قدمها الجيش المصري لتشارك في العملية السياسية وليس لاستبعادها. وسادساً، لأنها استبعدت نفسها سياسياً واختارت المسار الأمني للمواجهة. وسابعاً، لأنها تضع مصر في خطر الانقسام الأهلي المرير. وثامناً، لأنها عمليًا تنتحر سياسياً وهي التي تعيد نفسها إلي ماضي الاعتقالات والمحاكمات بسبب تصرفات قياداتها. لعل الغرب، بالذات بريطانيا والولاياتالمتحدة، كان يدرك أن حكم الإسلاميين فاشل مهما طال أو قصر أمده، ولذلك مدّه بكل تأهيل وترحيب ودعم. دافع الغرب عن موقفه باسم احترام الديموقراطية التي أنتجت حكم 'الإخوان المسلمين' عبر انتخابات – انتخابات كانت 'مسلوقة' أساساً لم تسمح لقوي الشباب بالتنظيم الضروري بعد الثورة وأتاحت الفرصة ليحصد 'الإخوان المسلمون' ما زرعوه لعقود علي صعيد البنية التحتية الشعبية المصرية. المهم، أن الكثير من المسؤولين في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وغيرهما كان يتوقع دوما أن تثبت تجربة حكم الإسلاميين فشلها، عاجلاً أم آجلاً. والأرجح، أنهم لم يتوقعوا سقوطهم وفشلهم بهذه العجلة. لذلك، تبدو كاثرين آشتون تلملم نفسها وأفكارها أمام ضخامة وخطورة ودهشة الحدث المصري كي لا تدعم حكماً عسكرياً حتي وإن كان موقتاً وانتقالياً بشراكة مدنية لها حجمها وثقلها ولها شعبية أكبر بكثير من شعبية 'الإخوان المسلمين'. الحكم الموقت في مصر يقع تحت المجهر المحلي والرقابة الدولية خشية أن يرتكب خطأ يجعل منه عرضة لتهم 'الإخوان المسلمين' له بأنه 'انقلاب عسكري' علي الشرعية والديموقراطية. واقع الأمر أن 'الإخوان' هم الذين يدفعون الحكم المؤقت عمداً إلي ارتكاب أخطاء يتمنون ارتكابها حتي علي حساب أرواح المصريين. إنهم يتمسكون بماضٍ مر عليه الزمن، ومن أجل إحيائه إنهم يغامرون بالأرواح وبمستقبلهم السياسي. يريد 'الإخوان' عودة الرئيس المعزول محمد مرسي إلي كرسي الرئاسة وهذا بات أمراً مستحيلاً يعرف تماماً 'الإخوان' أنه ليس وارداً جماهيرياً أو سياسياً. يعرفون أن لا ثورة الاعتصامات، ولا حملة توصيف ما حدث بأنه 'انقلاب' ولا الدعوة إلي استفتاء، ولا نجدة أوروبية أو أميركية ستعيد مرسي إلي الكرسي. ومع هذا، فإنهم يلجأون إلي الاعتصامات لاستفزاز الجيش، بدلاً من الموافقة علي الدخول في العملية السياسية عبر 'خريطة الطريق' التي دعتهم إلي المشاركة. يلجأون إلي العنف أملاً بتوريط الجيش بإجراءات أمنية تسفر عن ضحايا – لا سيما من النساء اللواتي يتصدرن الآن واجهة الاحتجاج والاعتصام والتظاهر أمام كاميرات التلفزيونات العربية والدولية بهتافات لم تعد أصواتهن عبرها 'عورة'. الحكم المصري صعّد في اليومين الماضيين مواجهته مع 'الإخوان' عبر إجراءات عدة، بعضها لا سابقة له، وتعهّد بفض الاعتصامات بإجراءات تدريجية من دون أن يلجأ إلي استخدام الرصاص – إلا إذا فرضت المعطيات الأمنية عليه ذلك. فالحكومة المصرية اعتبرت اعتصام 'الإخوان' في ميدانَي رابعة العدوية والنهضة 'تهديداً للأمن القومي المصري' و 'ترويعاً' غير مقبول للمصريين لما انبثق عنه من 'أوضاع خطيرة' وما تبعها من 'أعمال إرهابية وقطع للطرق' وكلفت الأجهزة الأمنية بإنهاء الاعتصام. تزامن ذلك مع إحالة النيابة العامة مرشد 'الإخوان' محمد بديع ونائبيه خيرت الشاطر ورشاد البيومي علي محكمة الجنايات بتهمة 'قتل المتظاهرين' ما يشكل المرة الأولي منذ نصف عقد التي يُحاكم فيها مرشد خلال توليه المنصب. إضافة إلي أن الحكم في مصر اتخذ إجراءات مثل فتح التحقيقات في شأن 'التمويل الأجنبي' غير المشروع لمحاصرة الأموال التي يتلقاها 'الإخوان المسلمون' لتغطية كلفة التظاهر ونفقات الاعتصام. وأصدر الحكم قرارات إحضار قيادات حزب 'الإخوان' إلي الشرطة علي ذمة التحقيق. ما استند إليه مجلس الوزراء المصري في إصدار بيانه الذي كلف فيه الأجهزة الأمنية إنهاء الاعتصام جاء 'استناداً إلي التفويض الشعبي الهائل للدولة في التعامل مع الإرهاب والعنف اللذين يهددان بتحلل الدولة وانهيار الوطن 'وكلف وزير الداخلية' باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات 'في إطار الدستور والقانون'لحماية الأمن القومي والسلم الاجتماعي وأمن المواطنين. كل هذه التعهدات تبقي قيد التنفيذ – والعبء الكبير يقع الآن علي الأجهزة الأمنية التي يجب ألا تنجرّ إلي مواجهات دموية وألا تُفرط في استخدام القوة. إنها عملية حرجة وخطيرة إذ إن الاعتصام ركن من أركان استراتيجية 'الإخوان' لن يستغنوا عنه بسهولة أو رضي – علي رغم أن لديهم وسيلة العودة عنه عبر الالتحاق بالعملية السياسية والمشاركة في الحكم عبر خريطة الطريق، قبل فوات الأوان تماماً إن لم يكن فات. هناك حاجة إلي هامش ضروري يسمح باللقاء، إذ حدثت تراجعات أو تنازلات أو عملية استدراك. ومن الضروري أن يكرر الحكم المصري دعواته الواضحة إلي حركة 'الإخوان المسلمين' بالعودة عن التحريض علي العنف والالتحاق بالعملية السياسية علماً أنه لن يتمكن من العودة عن محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين. دور الاتحاد الأوروبي كما كلف به كاثرين آشتون، أو الإدارة الأميركية التي ستوفد عضوي مجلس الشيوخ جون ماكين وليندس غراهام إلي القاهرة بطلب من الرئيس باراك أوباما، يجب ألا يكون دوراً متسرعاً في إصدار الأحكام أو التهديد بوقف معونات. أي تلميح أميركي بحجب المساعدات أو التهديد بسحبها إنما هو إهانة لن يتحملها المصريون في هذا المنعطف وستؤذي المصالح الأميركية. فهذه معركة عنفوان ومصير للمصريين، وحذار أن تأتي الوفود الأميركية والأوروبية وكذلك الأفريقية أو العربية إلي القاهرة لتلقين دروس الديموقراطية أو التهديد أو استخدام المال وسيلة للردع أو للإقناع. مصر تفهم تماماً حدود وآفاق الديموقراطية. تفهم جداً كيف يجب ألا تحل الفوضي والغوغائية مكان الحكم. مصر تدرك تماماً أنها في يقظة مصيرية.