الحكومة: لا صحة لإصدار قرار بتقليص حصة المواطن من الخبز المدعم على البطاقات التموينية    ميناء دمياط يستقبل 9 سفن متنوعة    نمو الاقتصاد التركي بمعدل 5.7% خلال الربع الأول    جيش الاحتلال ينفذ اعتقالات ومداهمات في الضفة الغربية    عربية النواب: تصنيف إسرائيل ل أونروا منظمة إرهابية تحد صارخ للشرعية الدولية    مقتل مسعف وإصابة آخر في هجوم إسرائيلي على سيارة إسعاف في لبنان    نهائي دوري الأبطال، إبراهيم دياز يحمل آمال المغرب في رقم أوروبي مميز    الأحد المقبل، فتح باب التظلم على نتيجة الشهادة الإعدادية بالجيزة    موعد بدء التقديم لرياض الأطفال وأولى ابتدائي على موقع "التعليم"    بعد علمه بمرضه... انتحار مسن شنقًا بالمرج    بالفيديو: شاهد الإعلان الأول لفيلم اللعب مع العيال    أحمد آدم: تاني تاني مناسب للأسرة.. وأعتمد فيه على كوميديا الموقف    ضمن مسرح الطفل.. ثقافة الإسكندرية تعرض «حلم» بمدرسة السادات غدا    من يحقق الكرة الذهبية؟.. أنشيلوتي بفاجئ جمهور ريال مدريد بتصريحات مثيرة قبل نهائي الأبطال    زيزو ليس بينهم.. كاف يعلن عن هدافي الكونفدرالية 2024    ضبط المتهم بتسريب أسئلة الامتحانات عبر تطبيق "واتس آب"    وصول جثمان والدة المطرب محمود الليثي إلى مسجد الحصري بأكتوبر "صور"    طقس غد.. ارتفاع بالحرارة على كل الأنحاء والعظمى بالقاهرة 37 درجة    عمرو الفقي يعلق على برومو "أم الدنيا": مصر مهد الحضارة والأديان    ماس كهربائى وراء اشتعال حريق بمحل صيانة أجهزة كهربائية فى العمرانية    الحوار الوطني يجتمع غدا لمناقشة ملفات الأمن القومي والأوضاع في غزة    في بلادي.. لا حياة لمن تنادي!    وزيرة التعاون: تحقيق استقرار مستدام في أفريقيا يتطلب دعم المؤسسات الدولية    معلومات الوزراء يناقش سبل تعظيم العائد من الإنتاجية الزراعية    ضمن مبادرة كلنا واحد.. الداخلية توجه قوافل طبية وإنسانية إلى قرى سوهاج    المفتي: عدم توثيق الأرملة زواجها الجديد لأخذ معاش زوجها المتوفي حرام شرعا    مرة واحدة في العمر.. ما حكم من استطاع الحج ولم يفعل؟ إمام وخطيب المسجد الحرام يُجيب    هل الجوافة ترفع السكر؟    تعشق المشمش؟- احذر أضرار الإفراط في تناوله    فرنسا تشهد أسبوع حافلا بالمظاهرات احتجاجا على القصف الإسرائيلى    أزهري يوضح الشروط الواجب توافرها في الأضحية (فيديو)    "العاصمة الإدارية" الجديدة تستقبل وفدا من جامعة قرطاج التونسية    بعثة المواي تاي تغادر إلى اليونان للمشاركة فى بطولة العالم للكبار    في اليوم العالمي للإقلاع عن التدخين.. احذر التبغ يقتل 8 ملايين شخص سنويا    بعد تحذير المحافظات منها، ماهي سمكة الأرنب ومخاطرها على الصحة    اعتماد 34 مدرسة بالإسكندرية في 9 إدارات تعليمية    وزير الإسكان يتابع مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي بالغربية    لا تسقط بحال من الأحوال.. مدير عام وعظ القاهرة يوضح حالات الجمع بين الصلوات    رئيس جامعة قناة السويس يُتابع أعمال تطوير المسجد وملاعب كرة القدم    محمد نوار: الإذاعة أسرع وأرخص وسيلة إعلام في العالم.. والطلب عليها يتزايد    برلماني أردني: التشكيك في دور مصر تجاه القضية الفلسطينية غير مجدي (فيديو)    الاعتماد والرقابة الصحية: برنامج تدريب المراجعين يحصل على الاعتماد الدولي    محافظ أسوان يتابع تسليم 30 منزلا بقرية الفؤادية بكوم أمبو بعد إعادة تأهيلهم    كوريا الشمالية تشن هجمات تشويش على نظام تحديد المواقع العالمي لليوم الثالث    محمد شحاتة: "كنت أكل مع العساكر في طلائع الجيش.. وأبي بكى عند توقيعي للزمالك"    وزارة الصحة تستقبل سفير كوبا لدى مصر لتعزيز التعاون في المجال الصحي    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    «حق الله في المال».. موضوع خطبة الجمعة اليوم في مساجد مصر    تفاقم أزمة القوى العاملة في جيش الاحتلال الإسرائيلي    من بكين.. رسائل السيسي لكبرى الشركات الصينية    تشكيل بروسيا دورتموند المتوقع لمواجهة ريال مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا 2024    تعرف على موعد إجازة عيد الأضحى المُبارك    الأعمال المكروهة والمستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة    شاهد.. الفيديو الأول ل تحضيرات ياسمين رئيس قبل زفافها    البابا تواضروس يستقبل وفدًا رهبانيًّا روسيًّا    مران منتخب مصر - مشاركة 24 لاعبا وفتوح يواصل التأهيل    تامر عبد المنعم ينعى والدة وزيرة الثقافة: «كل نفس ذائقة الموت»    محمد شحاتة: نستطيع تحقيق ميدالية أولمبية وعبد الله السعيد قدوتى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر مُقيّدة.. ولكنها ليست مُعاقة.. !
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 27 - 05 - 2013

يتمدد الحديد بالحرارة، وينكمش بالبرودة، ثم يتمدد بالحرارة، وينكمش بالبرودة، لكنه عند نقطة ما من تكرار التسخين والتبريد، يفقد خواصه الطبيعية، فلا يتمدد ولا ينكمش، وتظهر عليه أعراض مرض فيزيائي يشكّل ظاهرة اسمها ' تعب المعادن ' ولقد كانت خشيتي كبيرة من أن تنتقل أعراض ظاهرة تعب المعادن إلي معدن المصريين، وقد تقلّبت وجوههم بين السماء والأرض، والجنة والنار، واليأس والرجاء، فقد تقلّبوا صعودا إلي شرفة عالية من الأمل الجموح، فوق أجنحة الثورة، ثم انقذفوا يأسا إلي قاع سحيق بغير قرار، وهم يرون ثورتهم تتهاوي كطائر كسيح، ببنادق هؤلاء العابرين في زمن عابر.
غير أن هذا الأسبوع الذي تأججت فيه مشاعر المصريين، وانخرطت قلوبهم متوحدة خلف مشهد جنودهم المخطوفين، وظلت خفاقة كالرايات حول جيشهم، كان أبلغ معانيه موصول بأمرين جوهريين، أولهما أن المعدن التاريخي أو قل المركّب التاريخي لهذا الشعب العظيم، مازال يستعصي علة عوامل التفتيت والإفساد والتعرية، وثانيهما أن الجيش ما زال راسخا في وجدانه، شاخصا في بصيرته، باعتباره أمله درعا وسيفا.
لكن هواء الليلة المنعش، الذي رافق أخبار إطلاق سراح الجنود، سرعان ما تبدد عندما أخذت أتابع حوار محمود سعد – رفيق شارع الطفولة والصبا – مع اللواء عماد الدين حسين مستشار الأمن القومي في قصر الرئاسة، لقد خرج اللواء مستشار الأمن القومي في زينته مهنئا وكان ذلك مقبولا، ومسوّقا لدور د.مرسي في الإفراج عن الجنود، وكان ذلك – أيضا – مفهوما، لكن أكثر ما أثار انتباهي في الحوار أمران، الأول عندما تدفقت أسئلة المحاور في المساحة المعتمة من عملية إطلاق سراح الجنود، وإطلاق حرية خاطفيهم، لم يجد مستشار الأمن حيلة سوي شن هجوم خاطف عليه، يتهمه بأنه لا يريد نزع سلاح المتطرفين في سيناء، والحقيقة أنه عبّر بذلك عن حرفية عالية، في المراوغة وقلب الحقائق، والإفلات من أحجار الأسئلة الملقاة عليه، والثاني أنه عندما تدافقت أسئلة المحاور حول إهمال سيناء خاصة بعد الثورة، وجد مستشار الأمن ضالته في رد الاتهام إلي النظام السابق، وهو جزء كبير من الحقيقة دون شك، ثم عمد إلي تعزيز تبريره لإهمال ما بعد الثورة، بكبر مساحة سيناء، حيث أكد دون تردد أنها تساوي سدس مساحة مصر، وعندها وجدتني أصيح بغير قصد، يا الله، إذا كان مستشار الأمن القومي في قصر الرئاسة، لا يعرف مساحة سيناء، ولا نسبتها إلي مساحة مصر، وإذا كان يكرر بثبات الواثق، ويقين العالم، خطأ شائعا تم تصحيحه في دروس المرحلة الإعدادية، فما هو مفهوم هذا الأمن، وما الذي يتهدده، إذا كانت تلك أبجدية رؤية المختص الأول بشؤونه علي الكرسي المجاور لمقعد د.محمد مرسي؟!
سوف يقولون إن المسألة علي هذا النحو، تبدو مجرد حرفة أخري في توجيه الاتهام إلي الجانب الآخر، لأن الأمر لا يخرج عن خطأ عابر في حساب كيلومترات مربعة، أيا كانت بالزيادة أو النقصان، فسواء رأي الرجل في دفاعه أن سيناء أكبر أو أصغر مما هي في الواقع فإن هذه الرؤية لا تخرج بها عن كونها شبه جزيرة سيناء المصرية.
لكن الحقيقة ليست كذلك، لأن بين الجغرافيا والتاريخ وشائج صلة لا تبلي ولا تنقطع، ولأن الجغرافيا في مستوياتها المختلفة، ليست حدودا باردة، أو مساحات جامدة، ينتهي قياسها بالكيلومترات زيادة أو نقصانا، فهي التاريخ جامدا، بالضبط كما أن التاريخ هو الجغرافيا ذاتها ولكن في حالة سيولة، ولذلك لا قراءة لموقع أو موقعة أو شبر من الرمل، أو حفنة من الماء في سيناء، قراءة صحيحة دون أن تكون موقّعة علي نحو دقيق وصحيح، فوق خرائط الجغرافيا كمشهد حي مع إضاءة عمقه بكل مصابيح التاريخ، ولذلك لسنا بصدد خطأ في تقدير المساحة، وإنما أمام قصر في أبجديات الرؤية الأمنية والاستراتيجية، لقد كان الجنرال ديجول يرفض دائما أن يناقش موقفا أمنيا أو استراتيجيا، دون أن تكون خرائط الجغرافيا بحدود واسعة مفتوحة تحت عينيه، ولذلك كان طبيعيا أن ينتقي مستشاره ووزير ثقافته من وزن فرنسي ثقيل، فقد اختار إلي جواره 'أندريه مارلو' وهو واحد من ألمع العقول الثقافية والفكرية في القرن العشرين، ليس في فرنسا فحسب وإنما في أوربا كلها، وكان الأمر من جانبيه توازنا في العقل والرؤية والثقافة، فالحكم علي الجالس فوق مقعد رفيع في دولة ما لا يبدأ ولا ينتهي به، بقدر ما يبدأ وينتهي بأوزان الرجال الذين انتقاهم ليقدموا له صنوف الخبرة والمعرفة، التي يتطلبها نجاحه وطنيا، واستمرار بقائه فوق مقعده، لذلك عندما رحل ديجول كان أهم ما كُتب عنه، عمقا علي مستوي الرؤية، والأيديولوجية، والاستراتيجية، هو ما كتبه 'مارلو' في كتاب اختار له عنوانا موحيا من كلمة واحدة هي 'السنديان' فقد رأي فيها تلخيصا لدور 'ديجول' ولشخصيته، وبقاء ظلّه فوق فرنسا وأوربا لعقود ممتدة.
ليس الحديث عن الخطأ في تقدير مساحة سيناء، عرضا جانبيا منقطع الصلة بما أريد أن أقوله، محاولا تصويب بعض من الرؤي الجانبية أو الجزئية والسطحية التي تتعامي عن الحقيقة، أو لا تستوعب طبيعة التهديدات الاستراتيجية التي تستهدف سيناء، والقائمة فعليا فوق تضاريس الجغرافيا السياسية لمصر، وفوق أضلاع وتخوم الإقليم.
وإذا كان الأمر في البداية يستوجب تصحيح مساحة سيناء قياسا إلي مساحة مصر، فهي لا تمثل سوي 6.1% من هذه المساحة أي أنها حوالي 60 ألف كم2، أو علي وجه التحديد 61 ألف كم2، وذلك لا يعني تقليل كتلتها الجغرافية، قبل أهميتها الاستراتيجية، فهي من حيث الكتلة تساوي ثلاثة أمثال مساحة الدلتا، وهي من حيث الاستراتيجية الدفاعية وحدها، تطول أكثر من ثلث عمق مصر الممتد بين الشمال والجنوب، وهي من حيث امتدادها الساحلي تشكل ضعف حدودها البرية تقريبا، مستقطبة وحدها ما يقترب من ثلث طول السواحل المصرية جميعها، مطلّة علي أقدم بحر في التاريخ وهو البحر الأحمر، وعلي البحر الأبيض الذي يشكل الجوار المائي بين شمال وجنوب المتوسط، والذي ظل مسرحا ممتدا للتفاعل الحضاري، كما ظل مسرحا مفتوحا لاستراتيجية البوارج الحربية، أما بوابتها الشرقية فهي الجسر التاريخي لكل الجراد الصحراوي الطامع في الخضرة والماء، ولجميع الغزوات والحملات العسكرية الطامعة في السيادة الإقليمية والتمدد الكوني، استنادا علي الموقع الاستراتيجي المصري الحاكم، الذي يكاد أن يمثل العاصمة الاستراتيجية للعالم.
وإذا كان ضلعها الشرقي في مواجهة امتدادات فلسطين والشام الكبير، فإن ضلعها الغربي يرتكز بثبات علي قناة السويس، وكلا الامتدادين في الحقيقة ليسا جزءا مشتركا مفعما بوقائع التاريخ، ولكن كلا منهما ظل علي امتداد التاريخ يشكل في منظور الجغرافيا السياسية أو الاستراتيجية الوطنية نسيجا واحدا ملتحما، ووحدة استراتيجية متلازمة علي الجانب الأول، بحكم تلك الزاوية التي يتعامد عليها ساحل مصر الشمالي، وساحل الشام في شرق البحر الأبيض المتوسط، وشرقا السويس والتي تمثل سيناء رأس زاويتها الحاكمة، والتي يمتد قطاعها عبر السويس إلي الإسكندرية، مترافقا وممتدا مع الساحل الجنوبي للبحر المتوسط كله، وعلي الجانب الثاني، بحكم ما تمثله قناة السويس نفسها، كعنق في جسد مصر، رأسه هو سيناء ذاتها، ولذلك سواء أردت أن تقبض علي العنق، فإن عليك أن تمسك بالرأس، وإذا أردت أن تمسك بالجسد، فإن عليك أن تقبض علي العنق، فخنق مصر استراتيجيا يعني القبض علي قناة السويس، ولا سبيل إلي أن يتحقق الأمر الأخير بغير ضرب السيادة المصرية في سيناء، ولا سبيل لذلك إلا بتصفية منظومة القوة فيها، وإذا كان 'نابليون' قد ركز رؤيته لموقع مص الاستراتيجي الحاكم في ثنايا قوله: 'قل لي من يسيطر علي مصر أقل لك من يسيطر علي العالم'، فإن 'أندريه زيجفريد' قد أعاد تكثيف رؤية 'نابليون' بقوله: 'قل لي من يسيطر علي قناة السويس، أقل لك من يسيطر علي العالم'، ولذلك تبدأ محاولة إعاقة دور مصر بمحاولة إعاقة قناة السويس، إذا لم تتحقق إمكانية الاستحواذ عليها بالقوة، وتبدأ محاولة إعاقة الإقليم كله بمحاولة تحويل مصر إلي دولة معاقة، فقناة السويس هي المبتدي في كل الأحوال أيا كان الخبر السيئ أو الجيد، ولذلك– أيضًا– فإن أهمية القناة لا تحسب علي قاعدة حسابات تكلفة الزمن في النقل البحري حول العالم، سواء بإضافة 12 يوما إضافيا للوصول من رأس التنورة في السعودية إلي جبل طارق مثلا، وليس علي أساس المضاعفة في التكلفة المادية، بإضافة 750 طنا إضافيا من الوقود تضاعف تكلفة النقل مرتين ونصف، كما أنها ليست حسابات تتعلق بسلامة البيئة تترب علي انبعاث 2235 طنا من غاز ثاني أوكسيد الكربون مع كل سفينة تدور حول رأس الرجاء الصالح، فهي في جوهرها حسابات توازنات استراتيجية، وسيطرة مادية، تمثل القناة قلبها ومصر جسدها فهي رمانة التوازنات الطبيعية، والمفاتيح الاستراتيجية لتلك الكتلة الاستراتيجية الهائلة التي تمتد عبر البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، ومنها إلي سائر البحار والمحيطات.
ودون تفصيل، فليس ثمة متابع جاد أو دارس متعمق، لاستراتجية الأمن القومي الأمريكي، في إصداراتها الحديثة التي أخذت في التبلور منذ عام 1997، علي يد طلائع المحافظين الجدد، إلا ويستطيع أن يري بوضوح كامل أن أحد محاور هذه الاستراتيجية موصول تماما بالسيطرة المباشرة علي الممرات الدولية الخمسة الحاكمة، والتي لم يطبق منها حقيقة خارج أحكام السيطرة المباشرة سوي قناة السويس، سواء كنا نتحدث عن قناة بنما، أو مضيق هرمز بعد احتلال العراق، أو مضيق جبل طارق بعد تمدد 'أفريكوم' فوق تخومه، أو مضيق باب المندب في اتجاه ممر الكيب البحري، أو قناة السويس نفسها.
علينا – إذن – من أجل بلورة رؤية استراتيجية صحيحة ومكتملة بخصوص التهديدات الاستراتيجية التي تصوب نفسها كالحراب المسمومة إلي سيناء والقناة، بل إلي الكيان الوطني كله، أن تفصل – أولا – فصلا جازما بين أدوات الاستراتيجية المضادة، وبين هيكل هذه الاستراتيجية ذاتها، لأن الأدوات قابلة للتغيير وللتطوير، وللاتساع التعمق، أما هيكل الاستراتيجية المضادة وجسمها الحقيقي فهو الأساس، الذي يجب أن تلاحقه العقول قبل العيون، لأن هذا الهيكل هو الأكثر ثباتا، أما أدوات تحقيقها فهي الأكثر تغيّرا، وإذا ما تم تشريح الاستراتيجية المضادة، فإن توقع طبيعة أدواتها وأسلحتها القائمة والقادمة، يقع في حيز الممكن والمتاح، وعلينا – ثانيا – أن نصل في حيز الرؤية المباشرة وصلا جازما بين البيئة الاستراتيجية الوطنية التي تعمل عليها أدوات هذه الاستراتيجية المضادة، وبين البيئة الاستراتيجية الواسعة المحيطة بمصر، علي المستوي الإقليمي الرحب وامتداداته البعيدة المدي، لأنه من البديهي أن يلزم بالضرورة في النسق العام لتوجه استراتيجي مضاد، وجود وحدة بين أنماطه ومحاوره المختلفة، ووحدة في أنماطه ومحاوره وأدواته علي صعيد ساحة الجغرافيا السياسية، أو الاستراتيجية التي يتحرك فوقها، وعلينا – ثالثا – ألا نسمح لتفكيرنا وتقديرنا بأن يتحرك خارج نطاق الجغرافيا السياسية، أو خارج نطاق الزمن التاريخي، لأننا لسنا في حلبة صراع أيديولوجي أو ثقافي، وإن بدا كذلك، وإنما عند حائط صدام حقيقي مع نمط منحط من الإمبريالية، يمثل ردّة تاريخية إلي هيكل استعماري تقليدي، أفل زمانه منذ أكثر من نصف قرن، وأعادته إلي الحياة أزمة هيكلية غريبة، اقتصادية واجتماعية، وصلت إلي حدود متفجرة، دون مخرج متاح، أو حل مرتقب، لأن جانبا من تكنولوجيا صناعة الوهم فيما يجري، هدفها أن تفرض علينا أن نمارس نوعا من التطبيع العقلي والنفسي، بيننا وبين عملية التغيير المركبة التي تجري، بأن نراها في حدود دينية، أو مذهبية، أو عرقية صرفة، بينما نحن علي قمة موجة عاتية مصنوعة من موجات التاريخ الانقلابية، تطول جغرافيا المنطقة الطبيعية قبل السياسية أو الثقافية، وما تبقي من غير ذلك فوق مسرح الميدان، فهو مجرد أدوات طامعة، أو مجرد أسلحة تابعة، وعلينا أن ندرك – رابعا – أن الموجة الاستعمارية الجديدة، التي تهب علينا من جميع الاتجاهات والمحاور الاستراتيجية، قد انتقلت أوربا الغربية معها، من موقع إلي موقع، ومن موقف إلي موقف، فلم تعد أوربا التي انطفأت حاستها الاستعمارية، واتسع خطابها السياسي لمفردات ما بعد الحرب العالمية الثانية في السلام والحرية، وحقوق الشعوب قبل حقوق الإنسان، لقد تبدد تحت تأثير الأزمة الاقتصادية الطاحنة، نزع أوربا من نزعة القوة الأمريكية، وتبدد قلقها في عصر أزمتها الاقتصادية الطاحنة، من النزوع الإمبريالي الجديد، فقد جددت الإمبريالية الجديدة، في صيغتها المتدنية، مطامع ومطامح الاستعمار القديم، وأعادت حاسته الاستعمارية إلي اليقظة والتربص والوثوب، بل يكاد أن يكون أكبر المنتفعين من الاستراتيجية الأمريكية المضادة للإقليم، هم بقايا الاستعمار القديم وهياكله، التي سبق لها أن دخلت متحف التاريخ، وعلينا – خامسا – أن ندرك بجلاء وبعقيدة وطنية صافية، أن الجدار الصلب الوحيد الذي مازال حاميا للكيان الوطني، هو منظومة القوة فيه وعلي رأسها القوات المسلحة، ثم المخابرات العامة والأمن الوطني، وفي قلب الاستراتيجية المضادة، فإن الهدف الاستراتيجي المباشر، الذي يستبق كل الأهداف الأخري، ويفتح أمامها الطريق علي مصراعيه، هو كسر إرادة القوات المسلحة، وإزاحة المؤسسة العسكرية بكل السبل والطرق والوسائل، خارج كل المعادلات الاستراتيجية والعسكرية والسياسية، وفي كثير مما يجري ويدبر من مؤامرات وتخطيط وعمليات في الظلام، أمس واليوم وغدا، ستظل القوات المسلحة، في قلب لوحة التنشين.
ماذا أريد أن أقول؟ أريد أن أقول – أولا – إننا بصدد ظاهرة واضحة يمكن تلخيصها، في تآكل المحيط الاستراتيجي للدولة المصرية، وأن عملية التآكل نفسها، شرقا وجنوبا وغربا، يراد لها أن تتغذي علي أطراف مصر، وأن ذلك بدوره جانب من نظرية أكبر، منطوقها الذي كررته أكثر من مرة هو 'شد الأطراف واحتقان القلب'، أما الصورة الأكثر تطورا من هذه النظرية فهي ' قضم الأطراف.. وإسكات القلب'.
وأريد أن أقول – ثانيا – إن تلخيص الاستراتيجية المضادة لمصر في أعداد من آلاف الإرهابيين يضعون بقعا استيطانية لهم في شمال سيناء، أو في مئات الأنفاق التي تطيح بسيادة الدولة المصرية بين مصر وغزة، ليس صحيحا، فكلا الأمرين أحد أدوات هذه الاستراتيجية ذاتها أكبر من ذلك بكثير، فالمطلوب دائما أن تكون هناك بؤرة احتقان شديد، تستقطب كل الأنظار علي جانب، وتضخ مناخا بالعجز، مع تقييد إرادة القوة المسلحة في تصفيتها، لكن ذلك لا يعني مطلقا ترك بؤرة الاحتقان علي حالها، أو التكيّف السلبي مع وجودها، مهما كانت حسابات التكلفة.
وأريد أن أقول – ثالثا – إن ما جري و يجري في سيناء ليس مقطوع الصلة بما يجري في القاهرة، تخطيطا وتنفيذا، واختلاقا لمناخ يساعد علي تحقيق الهدف المباشر من ورائه، وإذا لم يكن التفصيل ممكنا، فإن الإشارة متاحة علي الأقل، لثلاث ظواهر استبقت بأيام معدودة، عملية خطف الجنود، كان أولها واضحا لمن يتأمل بدقة شاشات الفضائيات المصرية، فقد عاد إنتاج الحديث الآثم القديم بغير مناسبة عن حكم العسكر، وتم وضع الجيش نفسه في دوائر اتهام متكررة ومبتذلة، عبر برامج ووجوه معروفة، وكان ثانيها تلك الظاهرة التي قادتها جماعات سلفية وإخوانية في مواجهة مبني جهاز الأمن الوطني، وارتفعت أصواتها منددة ومتوعدة، تحت دعوي اتصالات تليفونية قام بها بعض ضباطه مع بعض من شباب الجماعات، ولم تكن المظاهرة من أولها إلي آخرها إلا استباقا بقيد إضافي إلي قيد السلطة الحاكمة، للمهمة الوطنية الطبيعية للجهاز، وكان ثالثها، إلقاء مزيد من الوقود في حالة الاحتقان السياسي والاقتصادي والاجتماعي، علي نحو يدفع الناس دفعا إلي التحوّصل داخل ذواتهم وحاجاتهم ودوائر أزماتهم الحياتية التي تزداد اتساعا، وإذا أضفنا إلي ذلك الإنذار بوجود عمل مضاد للجنود في سيناء، كان موجودا في أيدي المخابرات العسكرية والمخابرات العامة، قبل أسبوع من وقوعه، وأن كلا الجهازين بالتأكيد قد بادر إلي وضعه حيث ينبغي له أن يوضع، دون استجابة أو رد، بل إذا أضفنا بعد ذلك أن المذكرات الخاصة بتطوير العمل العسكري في سيناء، وملاحقة الخاطفين، ومن هم علي شاكلتهم، قد وضعت بعد يومين من إطلاق سراح الجنود، حيث ينبغي لها أن توضع، وأنها ظلت علي حالها، دون تصديق واجب، فإن الأمر يتجاوز حدود الشبهات، إلي ما هو أقرب إلي اليقين.
يبقي الكثير حول ما تزامن في البيئة الإقليمية ما حادث خطف الجنود وما استبقه بأيام، وهو يستحق وقفة مطوّلة، كما نبقي كذلك محاولة الاقتراب من جسم الاستراتيجية المضادة، لكن ما ينبغي الآن تأكيده هو أن فهم ما يستغلق، ليس ممكنا بغير إضاءة كل مصابيح التاريخ من حوله، وللتدليل فقط فهذا جانب من نص محضر اجتماع بين ' جون فوستر دالاس ' وزير خارجية أمريكا وبين جمال عبد الناصر، بعد شهور من ثورة يوليو، وقبل أن يأخذ الاستعمار البريطاني عصاه ويرحل عن مصر، وقد كان بين أوراق أمين هويدي، ومنه أقتبس هذه السطور:
دالاس: لماذا لا تدخل مصر كعضو معاهدة الأمن الجماعي وفي حلف الدفاع عن الشرق الأوسط.
عبد الناصر: ما السبب الذي يدعونا إلي ذلك؟ وضد من هذا الحلف؟
دالاس: ضد الاتحاد السوفييتي
عبد الناصر: 'مندهشا' ولماذا؟ فالاتحاد السوفييتي علي بعد 5000 ميل من هنا، وهم لم يهاجمونا قط، ولم يحتلوا أرضنا أبدا، ولم تكن لهم قواعد هنا، ولكن البريطانيين يحتلون أرضنا منذ 70 عاما.
دالاس: حسنا.. ولكن في ظل المعاهدة سيبقي البريطانيون في قاعدة قناة السويس التي ستصبح ملكا للحلف، ولن يسمح لهم برفع العلم البريطاني، بل لن يرفعوا إلا علم الحلف فقط.
عبد الناصر: لو أنني قلت للشعب إن وضع البريطانيين هنا سيختلف من كونهم قوات احتلال إلي شركاء بمجرد تغيير العلم، فإنهم سيستهزئون بي، ويفقدون ثقتهم في شخصي، وهنا سيخرج آخرون من تحت الأرض ويكسبون ثقة الشعب.. ثم كيف أقنع شعبي بأن قاتلا في يده مسدس علي بعد 60 ميلا، أقل خطر من شخص يحمل سكينا علي بعد 5000 ميل؟
وبعد.. ، قبل أكثر من ستين عاما كان الهدف المباشر هو أن تصبح قناة السويس ملكا لحلف الأطلنطي، وأن يرفرف علمه عليها، وللأسف الشديد، لا يزال الهدف هو الهدف!
Email: [email protected]
Site: ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.