كانت كلماته صادمة للبعض، كان الكثيرون يتوقعون كلامًا مختلفًا، إنه أقرب إلي الأماني في ظل زمن الأحلام الضائعة، جاءوا من كل حدب وصوب، مثقفون وفنانون وشخصيات عامة وإعلاميون، كان وجودهم جنبًا إلي جنب مع القوات المسلحة في هذا اليوم يعني رسالة لكل من يعنيهم الأمر. إنها المرة الأولي التي يشارك فيها مدنيون في دورة 'تفتيش حرب علي القوات المسلحة' فعلها الفريق أول السيسي، ليقول للجميع إن قواتكم المسلحة بخير، وكفاءتها ليست موضع شك. عندما مضينا إلي منطقة 'دهشور' القريبة من الجيزة، لمتابعة هذا الحدث الكبير، التفتيش علي الفرقة التاسعة مدرعات، كانت المشاعر جياشة، كنا تواقين إلي المشهد، ملابس الضباط والجنود تشعرك بأننا علي أبواب حرب حقيقية. وصلنا إلي هناك، كانت القلوب قد سبقت، هنا مصرالحقيقية قالها الفنان الكبير عادل إمام وهو يتابع المشهد، حيث بدا عليه كما الآخرين حالة شديدة من الانبهار. بعد قليل جاء الفريق أول عبد الفتاح السيسي القائد العام، وإلي جواره الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان وحولهما ثلاثة من القادة الكبار.. صمم علي أن يأتي سيرًا علي الأقدام، ضجت المنصة بالتصفيق، وقف الحاضرون تحية لجيش مصر العظيم.. عندما وقف اللواء توحيد توفيق قائد المنطقة المركزية متحدثًا، كانت كلماته واضحة، هذه إذن رسالة جيش مصر لكل من يعنيهم الأمر، نحن نريد أن نقول لشعب مصر إن قواتكم المسلحة بخير وجاهزة لتنفيذ أية مهام في أي وقت. مضينا مع القائد العام إلي حيث يقبع الضباط والجنود، حشد مذهل من المدرعات والرجال، هتف الفنان أحمد بدير 'الجيش والشعب حاجة واحدة'، ردد المشاركون الهتاف بكل حماس، بينما راح آخرون يغنون لمصر وسط هذا الحشد من رجال آلوا علي أنفسهم أن يقدموا كل شيء، دون انتظار لثمن، إنهم مصريون وطنيون حتي النخاع. بعد فترة زمنية طويلة عدنا إلي المنصة مرة أخري، لقد حان موعد خطاب الفريق أول السيسي، الناس تواقة لسماع كلماته، تمنيت من الله، ألا يقرأ خطابه مكتوبًا، تلقائيته ساحرة، يشعرك كأنه مواطن مصري بسيط، يفكر مثلك، وهو مهموم بهذا الوطن، حساباته هي الناس، هكذا شعر به المصريون، يوم أن تحدث خلال الاحتفال الذي أقامته جامعة 'المستقبل' في ذكري انتصارات 25 أبريل مؤخرًا. بعد قليل، نحي الفريق أول السيسي الأوراق جانبًا، وراح يرد علي العديد من التساؤلات المطروحة، تحول الخطاب إلي مؤتمر صحفي وتعليقات من بعض الحاضرين، لم يعلق علي بعض ما قيل، لكنه قال كلمات أثارت جدل الكثيرين. استبعد السيسي في كلمته فكرة الانقلاب العسكري أو النزول إلي الشارع ليكون طرفًا في معركة ينأي الجيش عن الدخول فيها، قال بشكل واضح 'مافيش حد هايشيل حد، ولا يجب أن يفكر أحد أن الحل بالجيش، وعليكم ألا تغضبوا، إن الوقوف 10 أو 15 ساعة أمام صناديق الانتخابات أفضل من تدمير البلد'. قال 'البديل في منتهي الخطورة، ومع كل التقدير لكل من يقول للجيش ينزل الشارع، خلاص لو حصل ده، لن نتكلم عن مصر لمدة 30 سنة أو 40 سنة للأمام'. قال السيسي 'أقول لكم في هذه المرحلة التي نمر بها من مراحل الثورة، لابد من وجود صيغة للتفاهم فيما بينكم، فهذا الجيش نار لا تلعبوا به، ولا تلعبوا معه، لكنه ليس نارًا علي أهله، ولذلك لابد من صيغة للتفاهم بيننا'. وبلغة حاسمة قال القائد العام للقوات المسلحة 'إحنا اللي عارفين قواتنا، وعارفين قدراتها'.. وهنا أشار إلي مئات المدرعات والدبابات المحتشدة وقال 'هذه القوات المصطفة هي جزء صغير من الجيش وفي غيرها كثير، ثم نظر إلي جموع الحاضرين وقال 'لا أحد يفكر بنزول الجيش'. أدرك الفريق أول السيسي أن كلماته أحدثت صدمة لدي الحاضرين، فبادر بالقول 'كان من الممكن ألا أخوض في الحديث السياسي لكنني أردت أن أقول لكم إن الوظيفة اللي أنا فيها في منتهي الخطورة، ولا أستطيع مقابلة الله بدم المصريين ولازم تعرفوا إن القرار ده من أبريل 2010 وده قرار استراتيجي'. ثم استطرد قائلاً 'حقائق القوة واستخدامها معقدة ولا يستطيع أن يحكم عليها من يجلس أمام التليفزيون'.. ثم قال 'أي حديث عن الديمقراطية هو حديث صحي، ولا أحد ينكره وسهل أن تتحقق الديمقراطية والمواطن هو الضامن لتحقيقها عبر مشاركته ولو وقف 15 ساعة'. وعندما علق السيسي علي كلام المحامي والمفكر رجائي عطية الذي تحدث فيه عن مخاوفه من انهيار الدولة في ظل حيادية الجيش رغم أدراكه بالمحاذير التي تعوق نزوله للشارع، قال القائد العام 'موقف الجيش ليس بسبب وجود مخاوف ومحاذير محلية أو دولية، ولكن لإدراك خطورة نزوله إلي الشارع في بلد عدد سكانه نحو 90 مليونًا'، وقال حرفيًا 'ده خطر شديد جدًا، لأن الأصل في الموضوع الأمن والدولة والحفاظ علي الدولة'!! كانت هذه الكلمات الأخيرة هي أخطر ما قيل علي لسان القائد العام 'الأصل في الموضوع، الأمن والدولة والحفاظ علي الدولة'. لقد ترك الناس هذه الكلمات، وراحوا يروجون إن الجيش تخلي عن الشعب في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ البلاد، وإن السيسي أعلنها واضحة 'لا نزول للجيش إلي الشارع مرة أخري'، لقد نسي البعض كلمات سابقة رددها أكثر من مرة عن 'أن الجيش المصري هو جيش الشعب، وأنه سيحمي البلاد واستقرارها في مواجهة مخاطر الفوضي والانفلات، ومحاولات تفكيك الدولة وإسقاط مؤسساتها'. تناسي الناس كلمات أطلقها السيسي سابقًا وتحديدًا منذ البيان الهام الذي أصدره القائد العام في الثامن من ديسمبر الماضي بعد أحداث الاتحادية والذي أكد 'أن الجيش لن يسمح بسقوط الدولة واستمرار الخلافات، تناسي الناس تصريحات أطلقها الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان وقال فيها 'إن الجيش المصري مستعد للنزول إلي الشارع بعد ثانية واحدة إذا استدعاه الشعب'!! إن القراءة المتأنية لوقائع ما حدث ظهر السبت الماضي والتصريحات التي جاءت علي لسان الفريق أول السيسي تجعلنا نتوقف أمام عدد من الحقائق الهامة: أولاً: إنه إذا كان القائد العام للقوات المسلحة قد أكد أن الجيش لن ينزل إلي الشارع، بسبب مخاطر هذا النزول وما يمكن أن ينجم عنه من تداعيات، إلا أنه أكد أن الأصل في الموضوع 'هو الأمن والدولة والحفاظ علي كيان الدولة'، وأظن أن هذه الكلمات لا تخلو من دلالة ومعان، ذلك أن الجيش المصري لن يستطيع أن يقف صامتًا أمام السعي لاسقاط الدولة وسيادة الفوضي. وهناك بالقطع فارق كبير بين نزول الجيش للاستيلاء علي السلطة، وهو أمر سيمثل انقلابًا عسكريًا لا أحد يستطيع التنبؤ بتداعياته المحلية والإقليمية والدولية وبين نزول الجيش بناء علي استدعاء شعبه باعتبار أن الشعب هو 'أصل الشرعية' لحماية البلاد من الانهيار أو للمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ثانيًا: إن كلام القائد العام حوي أيضًا في المقابل إصرارًا علي بقاء الجيش المصري جيشًا لكل المصريين، ينأي بنفسه عن الخلافات أو أن يكون طرفًا في معادلة الأزمة الراهنة، وقد تعمد أن يبعث برسالة لكل من يعنيهم الأمر خاصة هؤلاء الذين يسعون إلي أخونة الجيش واستفزازه عندما قال 'الجيش نار، لا تلعبوا به ولا تلعبوا معه، لكنه ليس نارًا علي أهله'، وهي إشارة جديدة تعني أن الجيش سيظل هو 'القوة الصلبة' التي لن تسمح لأحد باختراقها، ولن تكون أداة طيعة في يد أحد لتوظيفها لصالحه ضد أطراف أخري. ثالثًا: إنه ليس معني بقاء الجيش في دور 'الناصح الأمين للفرقاء السياسيين أنه قد تخلي عن الشعب ومطالبه بل إن القائد العام تعمد في بداية حديثه للحاضرين القول 'إن مشاركتكم اليوم تهدف لطمأنة الشعب بأن جيش مصر قوي جدًا، وقادر جدًا، وسيظل شعارنا المرفوع 'الجيش والشعب إيد واحدة' متسائلاً في المقابل 'هل من الممكن لأي أحد أن يقتل نفسه، وأجاب لا يمكن أن نفعل ذلك'!! وعندما راح يرد بشكل غير مباشر علي أحد المتطاولين عندما قال 'إن الفريق أول السيسي يتذلل للشعب رد بكل حسن قائلاً 'أيوه أنا بقول لهم أنا بتذلل للشعب لأنه شرف لي، وهل يمكن أن نتجبر علي أهلنا، نعم اتجبر علي أعدائي ولكن لن نتجبر علي أهلنا'. رابعًا: لماذا تعمد البعض أن يتوقف أمام المحاذير التي أطلقها وزير الدفاع في حال نزول الجيش للشارع، ولم يتوقف عند كلمة أطلقها في نهاية الحفل وكررها مرتين 'متستعجلوش متستعجلوش'.. وأظن أنه كان يقصد أن الجيش المصري لن يظل صامتًا حال انهيار الأوضاع في البلاد أو حال إدراكه أن الأمور تمضي نحو اسقاط الدولة لحساب الجماعة.. وهنا يمكن القول في التفاصيل توجد أوراق عديدة ربما لم يحن الوقت لكشفها في إطار المحاذير التي يطلقها الجيش في مواجهة هذ التغول الإخواني، خاصة ما يتعلق منها بقضايا الأمن القومي للبلاد، ومن هنا يجب فهم وقراءة الحملات المغرضة التي تحاول النيل من الجيش والتي كان آخرها الاستفزازات التي أطلقها عبد السلام بسيوني القيادي الإخواني وعضو مجلس أمناء اتحاد العلماء المسلمين خلال مؤتمر الشيخ يوسف القرضاوي الذي عقده في أعقاب عودته من غزة مؤخرًا والذي قال فيها حرفيًا 'نسأل الله ألا يُمكن الجيش من حكم مصر مرة ثانية، وأن يقطع دابر العسكر، وأن يهلكهم جميعًا حيثما كانوا، لأنهم وضعوا مصر تحت أقدام الأمريكان والصهاينة'.. إن هذه الكلمات تعكس لنا بوضوح حقيقة الموقف الإخواني من الجيش المصري والسعي إلي التجني عليه والتحريض ضده، وهو بالقطع ليس التصريح الأول ولن يكون الأخير، بل إن جماعة الإخوان وتحديدًا منذ دعوة السيسي لمؤتمر الفرقاء السياسيين تحت رعاية الجيش في ديسمبر الماضي، وهم لا يتوقفون عن الهجوم ونشر الأكاذيب وتسريب الشائعات الرخيصة، ولولا تماسك الجيش ووحدته خلف قائده والانذارات التي أطلقها وأكد فيها أن سيناريو عزل المشير والفريق سامي عنان لن يتكرر مرة أخري لجري عزل السيسي ورئيس الأركان والعديد من القيادات العسكرية الأخري، خاصة أن مكتب الارشاد أعد تقريرًا أكد فيه أن الجيش المصري بحالته الراهنة سيبقي هو العائق الرئيسي أمام مشروع الأخونة. خامسًا: إن الذين يظنون أن الجيش المصري سيحدد موقفه من النزول إلي الشارع من عدمه استنادًا إلي تصريح يصدر من هنا أو هناك، أو استجابة لمطلب من هذه القوي أو تلك، هم واهمون، لأن قرار نزول الجيش إلي الشارع تفرضه مقتضيات الواقع والمخاطر التي يمكن أن تهدد البلاد، أو استجابة لمطلب شعبي عارم شبيه بتلك الأحداث التي شهدتها البلاد في خضم ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي استدعت نزول الجيش وانحيازه للشعب.. من هنا يمكن القول إن الجيش لم يتخل عن الشعب حسبما يردد البعض استنادًا إلي تصريحات الفريق أول عبد الفتاح السيسي، فالجيش مع الشعب رغم كافة الاهانات التي لحقت به من بعض أطراف النخبة في أوقات سابقة إلا أنه لم يتخل ولن يتخلي، والأيام بيننا، فقط أردد ما قاله القائد العام 'متستعجلوش.. متستعجلوش'.