كورونا يعيد إلى الحياة توازنها.. ويقرِّب الناس من الله.. ويلمُّ شمل الأسرة عالم مهجور.. أكثر من ثلاثة مليارات إنسان في البيوت.. غني وفقير.. مجهول ومشهور.. عشش وقصور.. الغلبان في الحجر الصحي بالمستشفى العام مثل الأمير تشارلز ولى عهد بريطانيا العظمى.. وكأن هذا الفيروس الصغير جدًّا جاء ليحقق المساواة بين البشر.. الجميع الآن سواسية أمام قدرة الله. وأمام هذا الطوفان الجارف لم يكن هناك بُد من أن يبقى المصريون داخل منازلهم، تنفيذًا لتوصيات وزارة الصحة، ثم قرار حظر التجوال الذي صدر منذ أيام؛ خوفًا على حياة المصريين؛ وحتى لا تنهار المنظومة الصحية أمام تدفق أعداد المصابين كما حدث في دول كبرى. ولأن المصريين لهم طبيعة خاصة؛ حيث إننا شعب لا ينام، وتظل شوارعنا مستيقظة طوال أربع وعشرين ساعة متواصلة، فهناك سؤال يطرح نفسه: ما الحال بعد أصبحتِ الشوارع مهجورة وخالية تمامًا من العابرين؟ كيف تعيش البيوت المصرية الآن رهن الحظر؟ وكيف يقضي المصريون يومَهم بعد أن أجبرهم الفيروس على البقاء داخل البيوت؟ لقد تعدَّدتِ المشاهدات واختلفت ردود الفعل، فمعظم الأسر المصرية عادت تلتفُّ حول شاشة التلفاز لمتابعة تطورات الأوضاع، وكذلك متابعة المسلسلات أو برامج التوك شو.. عادتِ الدراما المصرية تتصدر يوميات البيت المصري، خاصةً مع عودة المسلسلات القديمة من أرشيف الفضائيات والتليفزيون المصري، وصارت فرصة ليشاهد الشباب والأطفال ما قدمته مصر من فن راقٍ وواعٍ ربما لم يشاهدوا مثلَه في الكثير من الأعمال الدرامية الجديدة التي عاصروها. لقد أعاد قرار الحظر -رغم مرارته- الكثيرَ للأسرة المصرية التي التفَّت مرة أخرى حول مائدة طعام واحدة غابوا عنها كثيرًا حينما كان أفراد الأسرة منشغلين، كلُّ في عمله أو دراسته أو أصحابه. وحينما صدر قرار الحكومة بمنع إقامة صلاة الجمعة والجماعة وإغلاق المساجد، كان وقعُ القرار أشبه بالصاعقة التي حلَّت بالمصريين؛ حيث ألقى في قلوبهم المزيدَ من الحزن رغم تفهمهم لطبيعة القرار وتقبُّلهم له، إلا أن هذا لم يمنع أسئلة حزينة دارت في خلدهم: «هل أذنبنا إلى هذا الحد الذي يحرمنا الله فيه من الصلاة في بيوته فأغلق أبواب مساجده في وجوهنا؟». هذا القرار جعل الكثير من المصريين -حتى غير الملتزمين بالصلاة أصلًا، أو حتى مَن لم يحرصوا يومًا على النزول إلى المساجد- يقيمون صلاتَيِ الجمعة والجماعة في المنزل؛ حيث يؤم الأب أو الأخ الأكبر باقي أفراد الأسرة للصلاة.. لقد كان وقع قرار إغلاق المساجد كبيرًا وقاسيًا على قلوب المصريين.. إنه القرار الذي لم يمنعِ الناسَ من الشعور بالهم والحزن والشعور بعظمة وكبر الذنوب التي ارتكبها البشر، رغم إدراكهم جيدًا لمدى صحته.. فبدأ تداول فيديوهات الأدعية والتضرع إلى الله، وبدأ الدعاء برفع البلاء، والاستغفار، وتم تشغيل القرآن الكريم في الكثير من البيوت المصرية عبر «الكاسيت»، وانتشر المزيد من مقاطع الفيديو لمؤذنين وشيوخ مساجد يبكون وقت رفعهم للأذان، خاصةً حينما تأتي عبارة «صلُّوا في رحالكم، صلُّوا في بيوتكم». لقد بات يقينًا لدى معظم المصريين أن «كورونا» جاء عقابًا إلهيًّا نتيجة غضب الله على أهل الأرض لكثرة ذنوبهم وعصيانهم وخطاياهم التي ضجَّت بها الأرض فغضبتِ السماء. إلا أن كورونا جاء أيضًا ليعيد إلى الحياة توازنها المختل، ويعيد لمَّ شمل الأسرة المصرية، فيعود الأب ليتابع أحوال أبنائه عن كثب، ويكتشفهم من جديد، وتبحث الأمهات في كل بيت مصري عما تقدِّمه من وجبة طعام يومية كان البيت قد حُرم منها نتيجة انشغالها بالعمل خارج المنزل لساعات طويلة، وانشغل الكثير من أفراد الأسرة بإعادة ترتيب منازلهم.. بينما أخرجت بعض الأمهات ألعاب الأولاد القديمة تشغلهم بها لتجنُّب إحساسهم بالملل أو «الزهق».. كما أعادت بعض ربات البيوت ماكينات الخياطة للحياة من جديد بعد أن كان قد عفى عليها الزمن.. بينما عادت أخريات لموهبة التطريز اللاتي كن قد عزفن عنها لضيق الوقت. بعض الشباب تسابقوا في قراءة الكتب وبدءوا يتواصلون هاتفيًّا ليخبر كل منهم الآخر عما قرأه، ويتبادلون الأفكار في كيفية استغلال وقت الحظر في شيء يحُوْل دون إصابتهم بالضيق أو الملل. وعندما أصدر الرئيس السيسي قرارًا بإغلاق المدارس مدة أسبوعين، سادت حالة من الارتياح لدى أولياء الأمور؛ لأن القرار جاء حمايةً لأبنائهم.. إلا أنهم لم يستطيعوا التخلي عن قلقهم على مستقبل أبنائهم من مصير عامهم الدراسي، فبدأ كثيرون ممَّن شغلتهم أعباء الحياة عن أبنائهم فى متابعة أحوال أولادهم الدراسية، بدلًا من إلقاء العبء على المدرس الخصوصي، فقد سادت حالة من الغموض في معظم البيوت المصرية، وبات الجميع ينتظرون أي تصريحات خاصة بوزير التعليم. ومن حسنات كورونا، كذلك، صلة الرحم.. فقد حرص العديد من الأسر المصرية على التواصل مع أفراد عائلاتهم، وأنشأ البعض جروبات على واتساب للتواصل مع أهاليهم والاطمئنان عليهم، ومشاركة النصائح والفيديوهات التى تتحدث عن الفيروس وطرق الوقاية منه، وتداولوا فيديوهات لمرضى «كورونا» سواء في مصر أو على مستوى العالم، منهم مَن هم مازالوا تحت الحجر الصحي، ومنهم مَن تعافوا وتماثلوا للشفاء، جميعهم يحكون عن تجربتهم مع الوباء وينصحون الناس بالبقاء في البيوت وقايةً منه، وباتتِ الأم والزوجة المصرية تسير في المنزل تحمل زجاجة الكلور أو المعقِّم وفوطة التنظيف، وما بين عبارات «عاوزين تاكلوا إيه... واغسلوا إيديكم بالمطهر» تمضي حكايات البيت المصري الآن.. ومع تصاعد الأحداث وتفشي الوباء، يزداد الخوف في قلوب الأسر المصرية التي لها أبناء يقيمون خارج الحدود، ولم تعد تكفي الاتصالات والرسائل للاطمئنان على الحال في الغربة، وبدلًا من اللقاء السنوى فى الإجازات، راحتِ الأسر تتواصل مع ذويها فى الخارج عبر مكالمات الفيديو بشكل يومي، فباتتِ القلوب المصرية في حالة ترقب متواصل وبحث وتساؤلات حول مصير أبنائهم في الخارج.. فهم يتابعون أخبار العالم ليس لمعرفة تطورات الأحداث الجارية مثل بقية المواطنين في مصر، بل أيضًا لمعرفة مصائر أبنائهم، خاصةً مع تفشي الوباء ووصفه ب«الجائحة» فصار يغتال ويحصد أرواح الناس بشكل هستيري، وضاقت مستشفيات الغرب صاحب القوة والتطور التكنولوجي والإمكانيات الجبارة مقارنةً بإمكانيات دول العالم الثالث، أمثالنا، وانتشرتِ «البوستات» على صفحات التواصل الاجتماعي تطلب من الأصدقاء والمعارف الدعوات بعودة آمنة سالمة للمغتربين إلى ديارهم وأوطانهم وذويهم.. مَن سعوا للخروج من الوطن يومًا ما، ومَن عاشوا سنوات طويلة في غربة اختيارية أو حتى اضطرتهم ظروفهم للعمل والعيش خارجه، ومَن تركوه فارِّين من ضيق العيش في هجرة غير شرعية.. باتوا يبحثون اليوم بإصرار عنه ويتشبثون بالعودة إليه.. إما للبقاء فيه بين أحضان الأهل والعائلة والأصحاب، أو الموت على أرضه وبين ترابه.. وقد كان لإصابة مسئولين كبار في الدول العظمى وقع وتأثير صادم على عقول العالم بشكل عام والمصريين بشكل خاص، حيث كانتِ المفاجأة بإصابة هذه الشخصيات المحاطة بكل هذا الاهتمام ومستوى النظافة في كل شيء وأسلوب الحياة والرعاية الصحية المتميزة التي يتلقونها ورغم هذا أصابهم الفيروس، وتمَّ تداولُ العبارة الشهيرة للفنان عادل إمام في فيلم «المتسول» حين قال «هيعملوا فينا إيه؟».. في إشارة تعجب لما سيفعله فيروس كورونا في الغلابة إذا كان قد أصاب علية القوم وساستهم! رغم هذا الضيق الجاثم على الصدور، إلا أن الإحساس بالمسئولية وكذلك خفة دم وإبداع المصريين خفَّف من وطأة وجع الأحداث، حيث بادر عدد من الأطباء بإنشاء جروبات على فيسبوك لتلقي أسئلة المواطنين واستفساراتهم؛ ليساعدوهم على البقاء في المنزل وعدم الاضطرار إلى النزول إلى المستشفيات أو عيادات الأطباء في مثل هذه الظروف إلا من تطلبت حالته ذلك.. كما يعمل الجروب على تهدئة المواطنين من مخاوف الإصابة بالفيروس وإرشادهم لطرق الوقاية الصحيحة. وانشغل الكثير من المواطنين -خاصةً الشباب- بإنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لدعم مجهودات الدولة في مواجهة كورونا، تنشر هذه الصفحات الأخبار الخاصة بالفيروس وطرق انتشاره وطرق الوقاية منه.. بينما تداولت صفحات أخرى فيديوهات لأشخاص يحكون للناس كيف يقضون أوقات الحظر، ويعرِّفون الناس كيف يستغلون أوقاتهم حتى لا يصابوا بالملل.. وأخرى عمل بها الأطفال الذين عبَّروا عن مشاعرهم وإحساسهم أيضًا بالمسئولية تجاه الأزمة، فظهروا يتحدثون عن الأمر كنوع من المشاركة الاجتماعية من خلال هذه الوسيلة التي صارت طريقة خروجهم من البيت ونافذتهم إلى العالم الخارجي. وفى الوقت الذى انشغل فيه الكثير من المصريين بتقصي أخبار الفيروس القاتل ومتابعته فى كافة أنحاء العالم، انشغل آخرون بتصوير مقاطع فيديو تتسم بخفة الظل ونشرها على صفحات التواصل الاجتماعي وعلى جروبات فيسبوك والواتسآب، من هذه الفيديوهات فيديوهات لرجال يطهون الطعام ويؤدون العديد من الأعمال المنزلية بطريقة طريفة، مع عدد من العبارات والجُمل الفكاهية المازحة. كما حاول الشباب كسرَ حاجز الملل وطول الوقت الموجودين فيه داخل البيوت بعد أن كانوا يملؤون الحياة مرحًا، فانتشرت فيديوهات لشباب من الجنسين اخترقوا سكون الليل وصمت الشوارع فأضاءوا ظلمته بإبداعهم، فقد عمل عازف كمان في منطقة الهرم على أن يشيع البهجة وقت حظر التجول ليخفف من معاناة الحظر، فأخذ يعزف على الكمان «المضيئة» الخاصة به في شرفة منزله عبر مكبر صوت بعد أن لاقى عزفه قبولًا وتشجيعًا من جيرانه، ووعدهم أن يقيم لهم حفلة العزف مساء كل ليلة لحين انقضاء فترة الحظر وانتهاء تلك الأزمة، وكان هذا الشاب نفسه قبل هذا ومنذ بداية الدعوة بالبقاء في البيت يعزف على الكمان في بث مباشر على مواقع التواصل الاجتماعي حتى جاء قرار الحظر، فجاءته هذه الفكرة التي أشاد بها جيرانه وأحبوها والتفُّوا حول عزفه كل مساء ليتابعوه من شرفات منازلهم. ولعل من أبرز ما حققه تحدى كورونا، هو شعور الكثيرين بالمسئولية، لقد فوجئ الكثيرون بأداء حكومة مدبولي، فلم يكن من المتوقع في ظل قسوة الأحداث أن يجد المصريون حكومةً تتعامل معهم بكل هذا الاهتمام الكبير، وكانت طريقة إدارة الأزمة التي تعاملت بها الدولة ومؤسساتها حتى الآن أمرًا مبهرًا للمصريين، خاصةً مع تصريحات منظمة الصحة العالمية التي أشادت فيها بالإجراءات الاحترازية التي تقوم بها الحكومة المصرية وبأداء الدولة للحفاظ على مواطنيها.. فى المقابل حاولتِ الأسر الميسورة الدخول فى تحدي الخير، هذا النهج الذي انتهجه عدد من المواطنين سواء من الميسورين أو حتى من الطبقة المتوسطة الذين بادروا بالتواصل مع جيرانهم ليقدموا مساعدات لبعض الأسر التي هي في حاجة للمساعدة، حيث تدور الحوارات والمناقشات عبر الهواتف لوضع خطة المساعدات واختيار الأسر المطلوب مساعدتها وأسلوب تنفيذ ذلك. ما يجري من أحداث كبرى، رغم بشاعته وقسوته، إلا أنه ينبئنا بأن يومًا ما سيولد من بين العتمة نور، وأن هناك مَن يضيء الجمال وسط الظلام، ويزرع الأمل في القلوب، ويعزف لحن الحياة وقت المحن.