ليس من عادات هذا النيل أن يصغي إلي أحد كأن النيل تمثال من الماء استراح إلي الأبد ماذا يقول النيل لو نطقت مياه النيل؟ يسكت مرة أخري وينساني.. 'محمود درويش' *** يكتب الصغير ابن شقيقتي في غضب 'زعلان عليكي يا مصر'، فيخمد سؤالي 'ليه؟' وأنا أعجب لصغير يحمل في قلبه بلاد كل ما فيها لا ينطق إلا بالغضب، واقرأ في عينيه ميلاد أزمنة جديدة تتعري فيها كل الأيدولوجيات الزائفة وكل سماسرة الخطب الساخنة، ولأنني أدري بفعل الشياطين في بلادنا لم اسأله ' من حمل عمرك الصغير كل هذه الأثقال؟'.. كانت البلاد من قبل، كلمات منظمة في موضوع انشائي، نشيد في الصباح، هرم ونيل وعبور لقناة السويس في كراسة الرسم، وكان الصغار موزعون بين الأحلام في وطن يتقمصونه ويتنفسونه، وبين واقع يكاد يقصف أعمارهم ويختصر أمنياتهم من حياة أرحب إلي أمل مكسور في العثور علي مساحة للدفن في وطن هو خارطة للروح. ينظر إلي الصغير ابن شقيقتي ويسألني: 'قناة الجزيرة مباشر مصر ليه بتعطش الجيم في مصر؟!'، لا ينتظر اجابتي المتباطئة فينصرف ويبتعد، بينما أنا وحدي مشهراً السؤال في وجهي. *** بين نوبات الضحك التي لا تقاوم كلما ألقي الرئيس خطاباً، وبين أصوات البعض مطالبة بالإصغاء خصوصاً ونحن نصطاد كلماته بصعوبة وبعدها ننفجر جميعاً في الضحك، ثم ينقلب الضحك حزناً في كل مرة وكأننا نكتشف فجأة أننا في هذه اللحظة القاسية نسجل سقوطنا المدوي وربما النهائي. الرغبة التشاؤمية الجارفة التي تسيطر علي الشارع هي مأزقنا الآني، الجميع يمضي إلي ما لا يعرف في فضاء الخراب اللانهائي، الفقر هو الفقر والغلاء والسرقة والفساد وإخوة أعداء وطائفية يفرضونها علينا، وعيون خائفة لكنها ليست بريئة لا تترك فسحة تنفس أو أمل. وصغار يقتاتون علي نفايات الشوارع ويعتصرون القلب، هم إرثنا من أنظمة الفساد، يقترب مني أحدهم اسمه محمد '8 سنوات' وحين أوجه إليه سؤالي خائب الرجا: 'إنت بتعمل أيه هنا؟'، يرد ببساطة: 'باسترزق'. الرد موجع ولكن الذي يوجع أكثر حين يمد يده بكسرة خبز ويقول: 'اتفضلي.. خدي ما تخافيش، كلنا بني آدمين زي بعض'. من لديه تلك القدرة العاطفية للتعامل مع أطفال الشوارع بحيادية أو كأرقام أو كاستعارات مجازية للعنف والفوضي والفساد والقهر والظلم وغياب العدالة الاجتماعية؟، بالنسبة لي الإجابة صفر، وإن حاصرني سؤال آخر: هل صحيح أننا لا ننزل النهر مرتين أبداً، علي اعتبار أن النهر يتغير وبالتالي فإن النهر الذي نزلناه بالأمس، ليس هو النهر الذي ننزله اليوم؟، إذا كانت هذه قاعدة بديهية فلماذا تتكرر كل قواعد البؤس بنفس المعطيات والنتائج؟!.. تزدحم الشوارع وتعلو أبواق السيارات وتزداد اللوحات الإعلانية ل 'برامج توك شو، بنوك، مدن جديدة و حتي ملابس داخلية.. ' بينما يقفز الأولاد في الشارع يبيعون الورد والمناديل الورقية. *** قال لها: ابتعدي عن ابني.. خليه يختار بنفسه. يحب مين أو يكره مين. اختياراته لازم تكون من دماغه. بلاش كل شوية تقولي له اسرائيل.. اسرائيل. قالت له: تصطفل انت وابنك. نظر الولد ذو السبع سنوات لأمه ثم لأبيه وقال: بابا أنا خلاص اخترت.. أنا باكره اسرائيل. أمسكت الفتاة الصغيرة بطرف دلاية السلسلة التي أرتديها.. الدلاية هي حفر لخارطة فلسطين قالت الصغيرة: فلسطين جنة ولا نار، نظرت إليها وقلت: إنت شايفة أيه؟. إنتظرت قليلاً ثم قالت بعفوية: الإثنين.. جنة ونار، ثم ركضت وابتعدت وتركتني في حيرتي وصمتي، بينما قال لي المناضل الفلسطيني 'كان يتابع المشهد عن قرب': المصريون أكتر شعب لسة عارف عدوه الحقيقي.. سنة بعد سنة وجيل وراء جيل وتظل اسرائيل هي العدو. يا أختي شو هالوعي، عندها حق اسرائيل أن تخافكم أكثر!! *** صوت محمد منير يعلو: النيل ولا بيوصل ولا بيتوه ولا بيرجع ولا بيغيب النيل سؤال ومازال ماجاش عليه الرد.. تدور الارض والدنيا وهو يدور ولسه بيجري ويعافر ولسه عيونه بتسافر.. ولسه قلبه لم يتعب من المشاوير.