أثق في عقول مصر المثقفة وشعبها علي تجاوز أزمتها الأخيرة.. تتحين الكاتبة التركية نازان بكير أوغلو كل الفرص لتعترف بعشقها لمصر، وبتأثير هذا العشق علي كتابتها إجمالاً هذا غير كتابين خصصتهما عن مصر هما ' يوسف وزليخة' و' نهر الزجاج والسفينة الحجرية'. استضافتها مكتبة الأسكندرية لتلقي محاضرة عن مصر وتأثيرها في أعمالها، وهناك التقت 'الأسبوع' بها وكان هذا الحوار: ** كتابان عن مصر ومقالات متفرقة عن المجتمع المصري ونجومه في الفن والثقافة، كيف بدأ هذا الولع بمصر؟ أنا في الأصل مولعة بمصر منذ شبابي، وكنت اقرأ عنها كل ما يقع بيدي، فوقعت تحت تأثيرها الساحر دون رؤيتها، كنت أعيش حالة رائعة وإحساسا بالجذب تجاهها بلا سبب معين، حتي زرتها لأول مرة في العام 2006 بدعوة للمشاركة في معرض القاهرة للكتاب، وبعد انتهاء المعرض ذهبت إلي الأقصر بالقطار بمفردي، فقد كنت أود رؤية النيل، فالنيل الذي رأيته في القاهرة لم يمنحني إحساسا نهر النيل الحقيقي، لأنه محاطاً بالأبنية العالية ولم يكن بصورته الزرقاء التي كانت في مخيلتي. وصلت إلي الأقصر صباحاً واستقريت في winter palace الذي كتبت عنه أجاثا كريستي 'الموت في النيل'، عند دخولي الغرفة كانت الأنوار منطفئة ويعم الظلام داخلها، عندما اضئت الأنوار ورأيت النيل للمرة الأولي شعرت بشيء لن أستطيع نسيانه طول عمري، شديد الزرقة، ساحر، مشهد جنة لا توجد في هذا العالم، وأيقنت أنني أعرف نهر النيل منذ الأزل. ** وهل تأكد إحساسك هذا بعد زيارتك الثانية؟ زيارتي الثانية كانت قبل 4 سنوات، كنت بصحبة بناتي وبالمناسبة واحدة منهما اسمها 'نيل' اخترت لها هذا الاسم تيمناً وتأكيداً علي ارتباطي بمصر، وقمنا برحلة نيلية من الأقصر إلي أسوان، توقفنا كثيراً طوال الرحلة ولفت انتباهي الناحية الغربية لنهر النيل والتي تعود إلي الأموات، أكثر من الناخية الشرقية والتي تعود إلي الأحياء، وفي وادي الملوك ذهبت إلي قبر توت عنخ آمون الفرعون الوحيد الذي يرقد في قبره دون أن أعير اهتماماً بالحديث عن اللعنة، عندما كنت أجوب معبد ادفو والكرنك ومعابد الأقصر انتابني شعور أعمق من المشاعر السطحية للسائح، سرت من الطرق المحاطة بتماثيل أبوالهول ومريت من بوابات ضخمة، دخلت إلي 'هيبو ستايل' الموجود بعد الفناء االمفتوح الذي يعد آخر مكان كان يستطيع الناس الدخول إليه في هذا الوقت، هذا المكان فقط كان يدخله الملوك والرهبان والشخصيات الهامة، فكرت أن معجزة آمون حدثت هنا، هذه التجربة تركت بداخلي أثراً عميقاً، وبعد عودتي من هذه الرحلة قلت لأصدقائي: 'لا تلزمني رحلة مكانية فحسب، تلزمني رحلة زمنية أيضاً'. شكلت هذه الجملة واحدة من الخطوط الأساسية لحياتي في الكتابة. ** فيما يبدو أن تأثرك بهذه الرحلة شكل جزءً مهماً في كتابك ' نهر الزجاج والسفينة الحجرية'.. إلي أي مدي كان هذا التأثير؟ صدر هذا الكتاب في تركيا بنقوش مصرية علي غلافه، في الأصل أتي اسم الكتاب من الثقافة المصرية، أثناء قراءتي في المصريات صادفت رسماً تظهر إلاهة أثناء جولتها بالسفينة الحجرية، وقلت إذا جعلنا سفينة حجرية تسبح فوق نهر من الزجاج فإن النتيجة الطبيعية هي كسر الزجاج.هذا الكتاب يحتوي علي ست حكايات، اثنتين منها وهما 'فرع الوردة الزرقاء نهر الزجاج والسفينة الحجرية' تدور أحداثهما في مصر القديمة 'الأثرية'، فكرة هذه الحكاية أرقتني طوال الرحلة النيلية، كلما رأيت الكتابات الهيروغليفية والنقوشات والمنحوتات علي الجدران والأعمدة وتلك التماثيل العظيمة والملوك والملكات، أعتقد أنها حجر. فقد علمتني مصر أن أفكر في الحجر. الحجر أصيل ويمكن الوثوق به، رائع وهاديء وبسيط وصبور ولكنه وقور. الحجر هو الموضوع الذي يقترب حد الخلود لأنه باق، انبهرت بشدة تجاه هذا البقاء ولكني علمت أنه حتي الأحجار التي تقترب حد اللانهاية محدودة، لذا ففي اللحظة التي أدخل فيها من باب مدينة أثرية فإن بقايا الأعمدة المتناثرة في النواحي الأربعة أكثر شيء يعطيني عبرة، كانت تلك الأعمدة في زمان ما تمتد نحو السماء ولكنها الآن لم تبق حجر فوق حجر، كل شيء علي وجه الأرض مؤقت ومحدود حتي الحجر. كان اخناتون يشيه بطل الرواية، هذا الفرعون الغامض دافع عن عقيدة الإله الواحد ودفع الثمن غالياً لأنه دخل الصراع مع الرهبان ولم يدفن في المقبرة التي اعدها لنفسه واختفي من الكتابات، مسح اسم اخناتون من تاريخ المصريين الذين يحبون الكتابة. ** وماذا عن كتابك الآخر 'يوسف وزليخة'؟ كتبته في العام 2000، وكانت هناك مثنويات كثيرة عن يوسف وزليخة في الأدب العثماني الكلاسيكي، وهذا أعطاني الشجاعة واللغة التي تمكني من قص حكاية يوسف وزليخة بصورة أدبية. تم تقييم الكتاب علي أنه بحث جديد تجمع لغته بين الشعر والنثر، ومع أن العمل حديث فقد تم تقييمه علي أنه أصلي ومؤثر ويحول تأثير التقاليد وفقاً للاحتياجات الأدبية لهذا اليوم. باستثناء اللغة والشكل في هذا الكتاب هناك أشياء لافتة، كشخصية الفرعون الطيب، نعرف من القرآن أن الفرعون الذي خاطب سيدنا يوسف كان يعرف قيمته وأودعه في مقام يليق به، بقول آخر هو فرعون لم ينكر حقيقة أن يوسف نبياً، وهذا يوضح شخصية غير صورة الفرعون المعروفة عموماً، وتوحدت بداخلي شخصية اخناتون وفرعون سيدنا يوسف، فما استطعت ألا أفكر أن هذا الفرعون هو نفسه اخناتون، فهل مر نبي يدعو إلي الحقيقة من قصر اخناتون؟ قال بعض أصدقائي من علماء الدين أن اخناتون يمكن أن يكون أحد ال 124 نبي الذين ذكروا في الحديث. لا نستطيع أن نقول أنه نبي لأن اسمه لم يرد في القرآن الكريم، ولكن هناك اسماء لا مانع في اشارتنا إليها علي أنهم أنبياء؟ فهل يمكن أن يكون أخناتون أحد هؤلاء؟ الله أعلم! ** مصر توجد أيضاً في كتاباتك الأخري بعيداً عن الأدب؟ لدي عدة كتابات عن مصر تنشر في عمود صحفي، كتبت عن أم كلثوم. دائماً ما أحببت أم كلثوم، واستمعت إليها كثيراً، كلما استمعت إلي صوتها، إلي النبرة الرائعة التي لا يوجد مثلها في هذه الدنيا، هذه النغمات التي تتعالي من قري الدلتا حتي القصور، هذه الصرخة الآتية من الصحراء، أغلق عيني وأجد نفسي داخل مركب في نهر النيل.. تأثير مصر علي شديد الوضوح، أحببت مصر دائماً وإذا كان يجب علي أن أعيش في دولة غير تركيا لأردت أن تكون هذه الدولة مصر. ** ربما يري البعض أن حبك لمصر لا يخلو من نظرة استشراقية..؟ فكرت كثيراً في هل هذا الاهتمام والحب يعد استشراقاً أم لا، ولكن ولعي بمصر جاء علي أنه حب للفن أكثر من كونه اقتراب للاستشراق، لأنه لا توجد مصر واحدة، فهناك مصر الفرعونية، مصر الاسلامية، مصر المسيحية، مصر القبطية، مصر الغنية، مصر الفكرية، مصر الفقيرة، مصر المظلومة. لا حظتهم جميعاً وحاولت الإمساك بعرق الحقيقة التي تجمعهم ولا تفرقهم، بحثت عن ذلك العرق في أقدم العصور التي يمكن أن يري فيها. ** وكيف تدعمين رؤيتك لمصر في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها الآن؟ لاحظت أن المصري علي دراية بتاريخ بلده وثقافتها، وهذا جعلني متأكدة وأنا أتابع التطورات الأخيرة في بلدكم بدقة أنكم تمرون بمنحني خطير لكن سوف تتجاوزونه، وثقتي كبيرة في عقول مصر المثقفة، وأدعو الله أن يفتح خير الأبواب لشعب هذا البلد الجميل، هذا الشعب الصبور المفعم بالحب.