جاليليو هذا عالم جليل، أعدمه أهله ولا ذنب له إلا أن قال " الأرض كروية " .. وقضاته الذين حكموا بإعدامه كانوا رجال الدين، ويتمثل فكر الثعالب فيهم، في أنهم يعلمون أن ما يقول به جاليليو حقا .. أو علي الأقل ممكن أثبات صحته، ولكن فكر ونشاط جاليليو، كان من شأنه أن يسلب منهم السيادة والتسلط علي الشعب باسم الدين، أما النخب في أهله، فهم من يتلقفون المعلومات من أفواه أو مواقف السادة، علي أنها مسلمات غير قابلة للنقاش، فعقولهم ملغية تماما، ويسلكون في حياتهم اليومية عن طريق القراءة الآلية، لما نقش آليا أيضا – وبدون تمييز بين الصالح والطالح - في اللاشعور عندهم .. يشبهون الطالب الذي يحفظ الدرس صما، دون فهم .. فهم ببغاوات.. وهيئة قضايا الدولة هي جاليليو ثورة يناير المصرية، لأنها هي الحقيقة التي غابت، أو غيبت فيما قبل الثورة، وقامت الثورة في المقام الأول لتسأل عن سبب نهب أموال الشعب، الأموال التي ما كان يمكن المساس بها إلا إذا كانت أموالا سائبة ؛ لأن المال السائب " بيعلّم السرقة " .. وسائب يعني ليس له من يحميه ويدافع عنه.. فيكاد يكون هدف الثورة الوحيد هو السؤال عن الدفاع القضائي عن حقوق وأموال الشعب ' الدولة '، أين كان في الماضي، وكيف نمنع أن يتكرر الفساد بعد الثورة ؟.. فنص مسودة الدستور الخاص بهيئة قضايا الدولة ' وليس الخاص بالقضاة '، هو المضغة التي لو صلحت صلح الدستور كله، ولو أهملت، فلا تكون الجمعية التأسيسية قد عالجت، أهداف الثورة .. فمنع الفساد، يترتب عليه تحقيق كل الأهداف التي تنشدها الثورة، فلن يتحقق أي رخاء اقتصادي، أو عدالة اجتماعية، طالما هناك فساد ,, وفي المقابل، فلو زال الفساد لتحققت النهضة في كل الميادين " كما قال أردوغان تركيا " ... وفي التاريخ، في الدولة العباسية، أنشأ المسلمون أرقي نظام للدفاع القضائي عن الدولة ، نظام لا زالت الدول الأوربية تلهث وتقوم بترميمات متتالية علي نظمها القضائية، وكل ترميماتها ما هي إلا خطوات متواضعة للوصول إلي نظام قاضي المظالم العباسي .. ومن هذه الترميمات، إنشاء مجلس الدولة الفرنسي، ولكنه أخطأ الهدف إذ أسفرت الفكرة عن قاضي جالس، في حين كان المطلوب قاضيا فارسا ' أي محامي للشعب '، ثم، تم إنشاء المدياتير، ولكنه لم يفي بالغرض للقيود التي أحاطها المشرع بالحق في اللجوء إليه، ولكونه يصدر توصيات وليس قرارات ملزمة، ثم، أخيرا، وفي التعديل الدستوري عام 2008 أنشأ الدستور بالمادة 71 مكرر ' 71/1' المضافة، نظام المدافع عن الحقوق ليقوم بفض المنازعات فوريا فيما يخص الوزارات والمحليات، والكيانات القائمة علي مرافق عامة .. ألم ير المستشار الغرياني أن فض المنازعات بقرارات فورية إنما هو لا يكون إلا عن سلطة تأسيسية منصوصا عليها في الدستور .. وأن لجان التوفيق التي نشأت بفساد فكر قضاة مصر، بالقانون 7 لسنة 2000 ليست هي فض المنازعات المطلوب إسنادها للنيابة المدنية .. .. كان قاضي المظالم في الدولة العباسية هو محامي الشعب، وكان سلطة عليا، يختص بما يعجز عنه القضاة .. في حين كان سلف النيابة الجنائية ' العامة تجاوزا ' هو المحتسب، وكان يختص بما رفه عنه القضاة ... كان قاضي المظالم يدافع أو يحمي حق الدولة في الترفع عن نقيصة أو سبة المماطلة في أداء الحقوق، بمنعها من الظهور كخصم أمام المحاكم ' أمام القاضي العادي ' فكان يقوم بفض المنازعات الخاصة بالولاة، والوقف الخيري بقرار ملزم .. قرار يصدر فور اكتشاف المنازعة، وقبل عرضها علي القضاء ... ولفظ الولاة ينصرف اليوم للوزارات، والهيئات العامة، والمحليات، وهيئات وشركات القطاع العام، وقطاع الأعمال العام، والكيانات القائمة علي تسيير مرفق عام .. كما كان من أهم صور الدفاع القضائي عن الدولة، الدفاع عن حق المجتمع في السلام الاجتماعي، هذا السلام الذي يقوضه البطء الشديد في التقاضي، فكان من أهم أهداف قاضي المظالم تحقيق العدالة الناجزة، حتي في قضايا الأفراد فيما بينهم، والتي ليست الدولة طرفا فيها، بالتدخل لعلاج مشكلة البطء في التقاضي، وكان هذا يتمثل في اختصاص قاضي المظالم بما روته كتب السياسة الشرعية : " بالحكم بين المتنازعين، والنظر بين المتشاجرين ' .. وعلينا أن نلاحظ دقة دلالات الألفاظ .. فالحكم ، والنظر هما خلاف القضاء الذي يصدر عن القاضي العادي ' وهو ما يؤكد أن قاضي المظالم لم يكن قاضيا جالسا، ولكنه كان قاضيا فارسا ؛ فكان محامي الشعب ' .. كما أن حالتي التنازع والتشاجر تعني اللدد في الخصومة، وعرقلة الوصول لحلها، وإطالة أمد تداولها أمام القاضي .. .. واليوم نسمع المثل الذي يتندر به الناس علي بطء التقاضي، وهو يقول " الداخل للمحاكم مفقود , والخارج منها مولود " ... فكيف لا نخشي أن يؤدي بطء التقاضي الذي صار لا يطاق إلي ثورة الشعب علي القضاة، ورأينا في التاريخ كيف أن ثورة الشعب الفرنسي إنما كانت ضد القضاة، وما كان إنشاء مجلس الدولة الفرنسي إلا محاولة للتخلص من القضاة .. والاستغناء عنهم .. هكذا فإن تولي سلطة الدفاع القضائي الاختصاص بتحضير الدعوي، إنما هو من باب الدفاع عن حق الدولة والمجتمع في السلام الاجتماعي، والوقاية من انعدام ثقة الشعب في قضاة الدولة .. والنابهين من أبناء مصر، أعضاء لجنة نظام الحكم في الجمعية التأسيسية، قد فطنوا لهذا الذي ذكرناه، فاجتهدوا أن يردوا لهيئة قضايا الدولة، ما غيبه عنها الثعالب والببغاوات قبل الثورة، وكان تغييبه سببا مباشرا لتعجيز هيئة قضايا الدولة، مما أدي لنهب أموال وحقوق الشعب، ,, فطنوا أن تعجيز الهيئة كان عن طريق ما اجتهد فيه الببغاوات والثعالب من تحجيم دورها واختصاصاتها وصلاحياتها في نطاق الوكالة عن الحكومة، بقولهم - إفكا وبهتانا - أن الهيئة " محامي الحكومة " ومحاربتهم أي مطلب أو مسعي من شأنه أن يخرج الهيئة من هذا القمقم .. لذلك رأت لجنة نظام الحكم تغيير مسمي الهيئة لتكون " النيابة المدنية " ، حتي يبعدوا عنها تراكمات الثقافة الفاسدة التي نشرها عنها أعداء الوطن من وصفها بمحامي الحكومة، وتحجيم دورها في نطاق الوكالة عن الحكام .. فانظروا معي كم كان فساد هذا الفكر ؛ إذ كشفت الثورة أن من نهب أموالنا وتعدي علي حقوق الشعب هم الحكام أنفسهم، فكيف – حسب فساد هذا الفكر – للوكيل أن يدافع ويحمي الدولة ضد موكله !!..كما أن في تغيير المسمي ما يؤكد أن الهيئة هي كما كان قاضي المظالم ، هي سلطة قضائية عليا ... كما أنهم اسندوا إليها الاختصاص .." بتحضير الدعوي"..، للقضاء علي مشكلة بطء التقاضي .. وهو اختصاص يحاكي اختصاص محامي الشعب العباسي ' قاضي المظالم ' – فيما كان يختص به في قضايا المتشاجرين والمتنازعين ..لعجز القاضي العادي عن القضاء في خصوماتهم .. ونري أن الشطر الآخر من نص لجنة نظام الحكم الخاص بالنيابة المدنية، والذي نصه : " وما يسنده القانون لها من اختصاصات أخري " .. يحتمل أن يخول القانون أن يسند للنيابة المدنية ' كما كان لقاضي المظالم ' فض منازعات الوزارات والهيئات العامة، والمحليات، وشركات القطاع العام، وقطاع الأعمال العام، والوقف الخيري , والكيانات القائمة علي مرفق عام، بقرار فوري ملزم لهذه الجهات، ولكنه قابل للطعن أمام محكمة أول درجة من الفرد الذي لا يرضيه القرار ... ولكن المصلحة العامة توجب النص علي هذا الاختصاص صراحة في الدستور إلي جانب التحضير ليكون النص كالآتي : " النيابة المدنية هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها، تتولي تحضير الدعوي المدنية والتجارية، وفض منازعات الوزارات والهيئات العامة، والمحليات، وهيئات وشركات القطاع العام، وقطاع الأعمال العام، والكيانات القائمة علي تسيير المرافق العامة، والوقف الخيري بقرار فوري ملزم لهذه الجهات، وتتولي الإشراف والتفتيش علي الإدارات القانونية القائمة علي تمثيل هذه الجهات أمام المحاكم وغيرها من الجهات ذات الاختصاص القضائي، وما يسنده لها القانون من اختصاصات أخري " وغني عن البيان، أنه يمكن للقانون عند تنظيمه للنيابة المدنية، أن يجعل منها شعبتان : الأولي _ ممن هم الآن في درجتي وكلاء الهيئة ونواب الرئيس، ويتولون فض المنازعات، والإشراف والتفتيش علي الإدارات القانونية .. وشعبة أخري تتكون من باقي الأعضاء، تتولي تحضير الدعاوي . هذا فضلا عما يسنده القانون لكلا الشعبتين من اختصاصات أخري .. هل رأي أحدنا وقفة هيئة قضايا الدولة أمام التأسيسية، وهل فهمنا مغزاها .. الواقفون أمام التأسيسية يخاطبون الشعب، يشكون له ما يحدث داخل التأسيسية من ثعالب وببغاوات كثر .. يضغطون علي الشرفاء من أعضاء لجنة نظام الحكم ، وأغلبية أعضاء التأسيسية المحترمين ، لكي يحكموا بإعدام جاليليو ' أي لكي يقضوا علي البقية الباقية من هيئة قضايا الدولة ' ؛ فبدلا من أن يبعثوا في الهيئة روح ودور وفعالية قاضي المظالم ؛ حتي لا نري فسادا بعد الثورة ...نجد المستشار حسام الغرياني -وقضاة كثر - والدكتور عاطف البنا .. يستدعيان باقي حوارييهم ' الدكتور ثروت بدوي وغيره' من خارج التأسيسية، وهم بعينهم كانوا الفريق الذي تسبب قبل الثورة في تغييب دور الدفاع القضائي عن المجتمع، وتعجيز هيئة قضايا الدولة عن القيام بدورها، فمهدوا الطريق ليسرق الحكام مقدرات الشعب ؛ هؤلاء حين وقوف الهيئة أمام التأسيسية، كانوا بالداخل يصارعون لكي يستبعدوا هيئة قضايا الدولة من الدستور قاطبة .. أو النص عليها في صورتها غير الصحيحة التي تضمنتها الثقافة الفاسدة التي نشرها - قبل اثورة - ذات الفريق الجاثم الآن علي النص الخاص بالهيئة الذي وضعته لجنة نظام الحكم .. فيقول الغرياني : " علي جثتي، لو تم تحويل قضايا الدولة لنيابة مدنية، أو لو تم النص عليها في الدستور قاطبة .. .. ويقول : إن ما نتفق عليه في الجمعية ينص عليه في الدستور، أما ما نختلف عليه نتركه للأجيال القادمة .. عجبا لهذا الرأي، فكيف يسوغ القول أن جمعية مجتمعه خصيصا لتضع دستورا يعالج أهداف الثورة، أن يتخلي أعضاؤها عن معالجة هدف الثورة الأوحد تقريبا، لمجرد افتعال خلاف ظاهري حول النص المعالج لهذا الهدف .. كيف هذا وكان الواجب يفرض عليه أن يقول أن من المفروض لزاما وحتما أن يكون النص المعالج لهدف الثورة واضحا وتفصيليا لا لبس فيه، ولا بد من حسمه، والوصول لحل مرضي فيه، وإلا فلا معني للقول بوجود ثورة ..فالتخلي عن النص هو تخلي عن الثورة ذاتها .. أعود وأكرر : إذا كانت الأغلبية الحاكمة اليوم من الإسلاميين لا تنوي سرقة أو نهب أموال الشعب، ولا تبغي فسادا، فلصالح من تجهد بطانات السوء نفسها في بناء أسس ودعائم الفساد، بالحرص علي تغييب الدور الحقيقي للسلطة القضائية .. مع ملاحظة أن القضاة ليسوا هم في الحقيقة أصحاب السلطة القضائية، وإنما – وحسب المفهوم الدقيق للسلطة القضائية – فإن أعضاء هيئة قضايا الدولة هم في الأصل أصحاب هذه السلطة ...