مصر حضرت تتحدى الألم وتشعل الشموع كان المشهد مهيبًا فى كل تفاصيله ووقائعه، هو لحظة إنسانية فى تاريخ هذا البلد سجلها الزمن بعيدًا عن كاميرات الصحفيين التى منعتها شركة مصر للطيران من دخول العزاء احتراما لقدسية الموت ومهابة الموقف، فتراصت كاميرات القنوات الفضائية على جانبى الطريق عند طريق الدخول لمدخل مسجد المشير طنطاوى لترصد من خارج بهو العزاء أصعب اللحظات التى تعيشها مصر.. كان المشهد قاسيًا تمثل فى مضيفات وطيارين حضروا فى جماعات بدت وكأنهم أسراب حمام حطت على الأرض بعد تحليق فى السماء، جاءوا يرتدون الزى الرسمى لشركة مصر للطيران، قادمين من رحلات أو ذاهبين إلى رحلات طيران أخرى بعد تقديم واجب العزاء. شعرت داخل كل منهم آلامًا مضافةً لآلامنا نحن المصريين بشكل عام، وجعٌ لأن من رحلوا هم زملاؤهم وأصدقاؤهم الذين جمعتهم بهم رحلات عمل أو صداقات وعلاقات أسرية، ومواقف إنسانية طوال عمر دراستهم وعملهم وبعضهم تربطهم علاقات بمن رحلوا منذ أن كانوا أطفالًا.. حين دخلت إلى بوابة المسجد كان السواد هو المشهد السائد لكل المتجهين نحو بهو العزاء رجالا ونساءً، إحداهن كانت تسير طريقًا طويلًا على عكازين من البوابة الرئيسة حتى وصلت داخل البهو فى إصرار على مشاركة زملائها حزنًا كبيرًا يتقاسمونه معًا، كانت مصر حاضرة بناسها جميعًا من كافة طبقات المجتمع، هيئاتهم توحى بمستويات الغنى والفقر، مسيحيون ومسلمون، جميعهم جاءوا إلى هنا يقرأن القرآن وينشدن الصلوات على ضحايا غابوا للأبد، ربما لم نعرف شخوصهم ولا أسماءهم لكننا تربطنا جميعًا بهم صلة الدم والعرق ورائحة وطن عاش فينا وتوحدنا به وفيه.. هنا مصر، تعلن الحداد.. وسط الزحام الشديد، حيث لا مكان لقدم وسط كل هذه الحشود والجموع والعيون الباكية، بالكاد وجدت مكانًا أستطيع أن أقف فيه لحظات للعزاء، وجميعنا لا يعرف من يعزى من؟ فكلنا فى المصاب سواء.. كنت أظننى الوحيدة التى ستذهب إلى هذا المكان ولا تعرف فيه أحدًا ولا من تمنحه العزاء، لكنه فوجئت أن معظم من جاءوا لا يعرفون بعضهم البعض، كلنا جئنا نشد أزر بعضنا بعضًا، ويبحث كل منا فى عيون غيره عن الصبر والسلوى.. هذا ما لمسته حين التقت عيناى بعينى تلك المضيفة الشابة التى لم يسبق لى أن أعرفها، وسط الزحام التقت عينانا الباكيتان، فاقتربت احتضنتنى فى حزن بالغ وبكى كلانا بكاءً مرًا، قالت: «كانوا إخواتى، وكنا قريبين من بعض جدًا، سمر كانت صاحبتى وحبيبتى، مش مصدقة إنى مش هشوفهم تانى، مش مصدقة انهم يموتوا كلهم مرة واحدة بالطريقة الصعبة دى، بتخيل ألمهم وهما بيتعذبوا فى الطيارة مش قادرة أستوعب وجعهم، احنا كمان ممكن نكون مكانهم، تخيلى ممكن نكون ازاى واحنا فى الطيارة، قلبى موجوع» بكت المضيفة الشابة، وبكيت، قلت لها: «مصر كلها قلبها موجوع، عزاؤنا الوحيد أنهم رحلوا شهداءً للواجب» عقب العزاء توجه العاملون بمصر للطيران إلى آخر مكان ودعوا فيه زملاءهم الوداع الأخير قبل إقلاع رحلة الموت التى غادرت ولن تعود للأبد، ذهبوا حاملين الورود والشموع فى أيديهم، وفى أعينهم حزن سيبقى وخوف يعيشونه مع كل لحظة تحلق فيها طائراتهم إلى السماء، وفى قلوبهم وشم الموت, وفى الذاكرة حكايات عن أحباب وأصدقاء عمر وزملاء تركوا وراءهم سيرتهم العطرة وابتسامات التقطتها كاميرات الموبايلات لتسجل أيام الصحبة الحلوة وأجمل أوقات عاشوها، كما تركوا حكايات موتهم القاسية المؤلمة.. هى نفس الوقفة بالشموع والزهور التى تكررت فى أكثر من مكان على مستوى محافظات مصر. كان من أصعب ما أوجع قلب المضيفة الشابة وزملائها، بل من أقسى ما أساء لنا جميعًا هو طريقة تناول الموضوع فى وسائل الإعلام الأجنبية التى اتهم بعضها قائد الطائرة بالانتحار وبعضها اتهم شركة مصر للطيران بالإهمال فى الصيانة والتشكيك فى قدراتها وقدرات طياريها وذلك فى الساعات الأولى للحدث رغم عدم البدء حتى فى التحقيقات، هذه الطريقة تؤكد نظرية المؤامرة، حيث إن تكالب الإعلام الغربى بهذه الهجمة الشرسة على مصر لتوجيه الرأى العام العالمى ضد مصر ممثلة فى شركتها العريقة مصر للطيران، وهو ما يحمل الشركة وبالتالى الدولة تبعات الحادث سواء على مستوى ضرب السياحة المصرية أو على مستوى إسقاط الشركة الأم التى تمتلكها الدولة وإلحاق خسائر فادحة بها، وكذلك على مستوى التعويضات التى يمكن أن تتحملها مصر إذا ما أدينت فى هذا الأمر وبين نظريات المؤامرة والإهمال والقضاء والقدر يبقى سؤال مهم نردده جميعًا: «هل سنعرف يومًا من المسئول عن سقوط الطائرة وإزهاق أرواح كل هؤلاء الضحايا الذين نحتسبهم عند الله شهداء، أم أن الأمر سينتهى بنا إلى المجهول كسابقه مثلما حدث فى حوادث مماثلة سابقة؟!