الهيئة القومية لسكك حديد مصر واحدة من أقدم وأعرق الهيئات في العالم، فمنذ تأسيسها عام 1853 وهي تعمل علي خدمة شعب مصر من أقصي الجنوب إلي أقصي الشمال، وكان لها دورها علي مدار السنين في ازدهار الإقليم المصري من الصعيد حتي البحر المتوسط شمالا، فهي تعتبر أول خطوط سكك حديد يتم إنشاؤها في أفريقيا والشرق الأوسط والثانية علي مستوي العالم بعد إنجلترا، وتُعَدُّ شريانًا يمشي في الجسد المصري ويعبر محافظاتها ومدنها وقراها من الجنوب إلي الشمال، وهي تنقل أكثر من مليون ونصف المليون راكب يوميًا من المحافظات إلي العاصمة والعكس، وهي العمود الفقري لنقل الركاب والبضائع في مصر. وقد عانت هيئة السكك الحديدية الإهمال الشديد خلال العقود الماضية والذي كلفها الكثير وسبب لها خسائر فادحة. ولم يكتف وحش الإهمال بنهش جسد السكك الحديدية، بل انضم له غول الفساد الذي تسلل إلي هذا الصرح الكبير. وعلي مدار السنوات الماضية تكبدت الهيئة مليارات الجنيهات من جراء الإهمال والفساد والتخريب المتعمد، فقبل ثورة يناير كانت الهيئة تعاني الفساد والإهمال، وبعد الثورة عانت التخريب أيضًا وقد جري الحديث عن فساد سكك حديد مصر علي لسان ابنائها العاملين الذين يشاهدون ما يحدث من نهب وسرقة وإهمال في هذا المرفق العظيم الذي انهار بفعل ما يحدث فيه من فساد. إن منظومة سكك حديد مصر قد اصيبت بالشيخوخة والعجز؛ لأن جميع الخطوط بلا استثناء لم يتم تطويرها منذ سنوات، وهناك جرارات وعربات متهالكة قد انتهت مدة صلاحيتها، وأغلب القطارات بلا إنارة أو أي خدمات تذكر، ودورات المياه تستخدم مخزنًا للركاب نتيجة للكثافة داخل العربات، ناهيك عن عدم النظافة في قطارات الغلابة، وعدم التأمين الكافي للركاب. وأصبح بعض القطارات سوقًا لبيع المخدرات والحبوب الممنوعة، وهناك بعض السائقين يشتكون من تلف الجرارات وتلف الفرامل، مما يعرض حياة الركاب للخطر. وأيضًا القضبان المتهالكة التي تعدي عمرها الخمسين والستين عامًا، وهي سبب رئيس لحوادث القطارات إلي جانب مزلقانات السكة الحديد التي تسببت في حوادث كثيرة وكان لها النصيب الأكبر من الضحايا، ثم نأتي للعمالة في هيئة السكك الحديدية والتي من المفترض أن تكون مدربة وعالية الكفاءة، ولكن للأسف نصف هذه العمالة غير مدربة وتفتقر إلي الحد الأدني من التدريب، ورغم محاولات الوزراء المتعاقبين علي وزارة النقل تجديد هذا المرفق المهم، فإنهم يعطون وعودًا براقة مع تسلمهم العمل ثم يصطدمون بالعراقيل والروتين. وهناك ملايين الجنيهات تصرف علي تطوير عربات القطارات وصيانة المزلقانات، إلا أنها تهدر نتيجة الفساد والإهمال.. ولا يستطيع الوزير أن يقف أمام مراكز القوي في وزارته، فهو يعلم جيدًا أنه تارك الكرسي قريبًا لا محالة ولا يستطيع أن يمنع هذه المافيا، وكل ما يفعله هو زيادة تذاكر السفر علي المواطنين الفقراء، فالأغنياء لا يركبون القطارات وإذا ركبوها فهم يركبون القطارات السياحية الفاخرة، أما فقراء مصر فلهم الله. لقد زادت قيمة تذاكر القطارات بالنسبة للوجهين القبلي والبحري زيادة جنونية بحجة تطوير الخدمة وتعويض خسائر السكة الحديد، وهذا كلام ليس له مكان من الإعراب؛ فالسكة الحديد لا تخسر بشهادة من يعملون بها، والدليل علي ذلك أنه عندما توقفت القطارات بعد ثورة الثلاثين من يونية قُدِّرت الخسائر اليومية بالملايين نتيجة التوقف فكيف تخسر؟! وأيضًا أموال التطوير والتجديد تذهب إلي جيوب كبار مسئولي الهيئة، وتدفع الدولة الفاتورة ثم تحصلها من المواطن الغلبان. آخر تقاليع الوزارة لكي ترفع قيمة تذكرة القطارات أنها أحلَّت قطارات V.I.P محل القطارات المكيفة ورفعت قيمة التذكرة في قطارات الصعيد الدرجة الثانية من القاهرة الي اسوان من 67 جنيهًا إلي 140 جنيهًا مرة واحدة تحت مسمي التطوير والخدمة الممتازة ولا يوجد خدمة من الأساس.. ومرتادو هذه القطارات كلهم من الطبقة الكادحة وطلاب الجامعات المختلفة، وليس لهم بديل لقضاء مصالحهم إلا هذه القطارات. إن حل أزمة السكك الحديدية في مصر لا يحتاج إلي شراء قطع غيار جديدة وعربات وجرارات، بل يحتاج إلي استغلال الموارد المتاحة الاستغلال الأمثل والجيد، ومكافحة الفساد الموجود في الهيئة، واختيار كفاءات تتمتع بالنزاهة ونظافة اليد حتي وإن كانت تركت الخدمة لأي سبب، وأيضًا تدريب العاملين تدريبًا جيدًا، وحتي نستفيد من هذا المرفق الحيوي المهم.