أيام قليلة ويفتتح البرلمان أبوابه لفصل تشريعى جديد، هذه المرة يبدو المشهد مختلفا، كافة ألوان الطيف السياسى والاجتماعى جاءت إلى المجلس بإرادة شعبية حرة، إنها الانتخابات الأكثر نزاهة منذ زمن طويل. غير أن التحديات التى تواجه هذا البرلمان ليست بالهينة، والرهان على دوره في دعم الكيان الوطنى ليس قليلاً، ومن ثم تبدو الأولويات المطروحة على جدول أعماله متخمة بالتشريعات والقوانين التى تحتاج إلى وعى متقدم بأبعاد التحديات التى تواجهنا، والمطالب المشروعة التى تتصدر أجندته. عندما تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى عن ضرورات التوافق الوطنى فى وقت سابق، بدا وكأنه يقرأ المشهد المستقبلى جيدًا، حذر من خطورة الخلاف الذى من شأنه أن يؤدى إلى الاختلاف، أكد أن طبيعة المرحلة وخطورتها تستوجب وحدة الشعب والنواب، على مبادئ هامة أولها الحفاظ على كيان الوطن ومؤسسات الدولة. وبعد فترة من الشد والجذب، عادت أجواء الخلاف تلوح فى سماء الحياة السياسية مرة أخرى، ارتباك فى الإدارة أحيانًا، وحروب كلامية لا تتوقف، معارك وهمية على «تورتة» هى غير موجودة من الأساس، وافتعال أزمات أدت إلى اشتعال الحروب بين رفاق الخندق الواحد. وهكذا راح كل منهم يعد العدة، وكأنه مقدم على الجولة الأخيرة، جولة الانتصار أو الهزيمة، غير عابئ بمتطلبات المرحلة وضروراتها، ووصل الأمر إلى حد اتهام المهندس نجيب ساويرس مؤسس وراعى حزب المصريين الأحرار «ائتلاف دعم مصر» بأنه ليس أكثر من قطيع يتصدر قيادته «مرشد آخر»، مشبهًا هذا «التكتل» بأنه يعيد انتاج تجربة الإخوان أو الحزب الوطنى «المنحل». وبعد أن أطلق ساويرس وبعض قادة حزبه هذا التوصيف فى سماء الإعلام، اشتعلت حرب من الجانب الآخر تنفي هذا الادعاء وتوجه اتهامات إلى الحزب وقادته بتفتيت الصف ومحاولة فرض أجندة بعينها. لم تتوقف المعارك عند هذا الحد، بل اشتعلت من جانب آخر فبدأنا نسمع عن موقف جديد لحزب الوفد الذى سبق أن أعلن عن انضمامه لائتلاف «دعم الدولة المصرية» سابقا «دعم مصر» حاليا، بعد أن اتهم إدارة هذا الائتلاف بأنها تحتكر الحكمة لنفسها وترفض الاستماع إلى الرأى الآخر، ولذا رأت هيئته العليا أن من المصلحة إنشاء تكتل آخر يتواصل مع حزب المؤتمر وبعض المستقلين والأحزاب الأخرى وساعتها يمكن أن يفكر فى التنسيق مع ائتلاف «دعم مصر». لم تبق سوى أيام قليلة على افتتاح دورة البرلمان، ومع ذلك يظل الجدل مستمرا، بل ومتصاعدًا، إلى الدرجة التى دفعت الكثيرين إلى اعلان القلق على مصير هذا التوافق داخل القاعة، بما يؤدى إلى خلافات حول القضايا والقوانين الأساسية، ومن بينها أيضا الموقف من بقاء أو عدم بقاء الحكومة الحالية، وما يترتب على ذلك من آثار. ويبدو أن الاختلاف يمضى إلى نهاية طريقه، رغم كافة الجهود التى تحاول ايجاد قواسم مشتركة يمكن البناء عليها إلا أن المطالب الحزبية والذاتية باتت تعلو علي الهدف الوطني المشترك، الذي سبق أن تعاهد عليه النواب قبيل الانتخابات بإعلاء المصلحة الوطنية للبلاد، وعدم الانجرار إلي مشاكل وخلافات من شأنها أن تؤدي إلي تفتيت الجهود وانعكاس ذلك علي الشارع المصري. إن الصلاحيات التي يمتلكها البرلمان والتي حددها الدستور الجديد )دستور 2014( وهي صلاحيات تجعل منه صاحب القرار الأول في البلاد كل ذلك من شأنه أن يدفع الجميع إلي توخي الحذر في الخلاف والسعي إلي التوافق وتفعيل هذه الصلاحيات بما يحقق العبور الآمن لمصر خلال الفترة الحالية تحديدًا. وليس بعيدًا عن الذهن هذه المعارك التي بدأت تندلع أيضًا حول تقسيم الأنصبة في اللجان النوعية والمناصب الرئيسة داخل البرلمان، وتلك معركة ليست بالهينة، تكتلات قبلية تشعر بالظلم والحرمان لسنوات طوال، وفي مقدمتها تكتل نواب الصعيد وأحزاب سياسية لها مطالب محددة يتوجب الاستجابة لها وإلا فإنها خارج السياق، وهناك عناصر مستقلة بدأت تبلور توجهاتها وتعيد صياغة تحالفاتها لأنها قد لا تحصل في ظل الائتلاف الأكبر علي نصيب يتوافق مع حجمها داخل البرلمان. أما معركة رئيس البرلمان، فهي لاتزال تراوح مكانها، ما بين أن يكون الرئيس من المنتخبين أم من المعينين، ذلك أن البعض يري أن من بين 568 نائبًا تم انتخابهم لا يوجد من يصلح رئيسًا، وعليهم انتظار قائمة من المعينين فربما تم العثور فيها علي شخص تنطبق عليه المواصفات المطلوبة. وهناك من يري أن ثقافة الماضي يجب أن تسقط مع المرحلة الجديدة وطبيعتها وتحدياتها، وهؤلاء يرون أنه لا يجب الانتظار للمنحة «الرئاسية» التي تقدم الحل الناجع لأزمة البرلمان، بل يجب فتح الباب أمام أي من المرشحين المنتخبين، وينتهي الأمر بالموافقة علي أكثر الحاصلين علي الأصوات. وإذا كان العالم ينتظر لحظة الحسم مع افتتاح البرلمان الجديد، ويتابع التطورات الراهنة، فإن الصورة التي كان الشارع يأمل فيها تبدو غائبة بالقدر الكافي حتي الآن، ذلك أن المقدمات تنبئ بالتوقعات، ومع ذلك يبقي الرهان علي اللحظة الأخيرة.