منعتني للأسف ظروف طارئة من حضور عزاء صديق الكفاح وأيام التسكع والمراودة محمود الهندي. فالرجل بالنسبة لي ليس مجرد صديق ولكنه كان من أوائل من علمني وأرشدني في بداية العمر إلي الثقافة غير التقليدية فهو أول من عرفني علي أعمال دستوفيسكي وبوشكين وتشيكوف وايفتشنكو وكزانتزاكس وسارتر ودرويش والطيب صالح الذين كنت أسمع أسماءهم لأول مرة, فلقد كنت في الصف الثاني الثانوي عندما أخذني الصديق الراحل مجدي رياض إلي بيته, وقال لي يومها سأعرفك علي كنز. ذهبنا إلي منزلهم الصغير بجوار المساكن الشعبية في آخر 'حارة رابعة' بالجيزة، فقابلنا بوجهه البشوش وابتسامتة الطيبة تحدثنا في السينما والمسرح والشعر وأنشد أشعاره واستمع لأشعارنا الأولي, وأعطاني يومها ديوان نزار 'هوامش علي دفتر النكسة' وأذكر أنني نسخته كاملا بخط يدي لأنه كان يوزع سرًا كالمنشورات وبعد ذلك نسخت منه نسخا بالكربون لأصدقاء شارع المحطة.كما أعارني كتاب شهدي عطية الشافعي 'تاريخ الحركة الوطنية' ظللت لفترة طويلة لا أقابل الهندي الا بصحبة مجدي رياض فنسير بالساعات في طرقات الجيزة حتي شارع البحر الأعظم نتناقش ونتجادل في الفلسفة والفن والشعر حتي أطلق علينا الشاعر الراحل عبد الحميد عبد الهادي وصف 'المشائين' مشيرًا إلي تلاميذ أرسطو, وفي أحد الأيام قابلته في شارع المحطة فدعاني إلي ندوة كان يعقدها عمنا حسين القباني في كازينو الجزيرة بالمنيل كل جمعة وذهبنا أنا وعبد الحميد ومجدي وفي هذه الندوة تعرفنا في أوائل السبعينيات علي محمد مستجاب ومحمد السيد عيد ويسري خميس ويسري العزب ومحمد سليمان ومحمد أبو دومة وظللت أنا وعبد الحميد عبد الهادي مخلصين لهذة الندوة حتي مرض حسين القباني وانفرط عقدها بعد وفاته. الطريف ان الهندي الذي عرفنا علي تلك الندوة كان لا يحضرها إلا قليلًا.. ورغم مشاغلة ومسئولياته الأسرية كان يحب أن يخدم الآخرين ويتطوع دون أي طلب لتسهيل مهمة أي باحث ولكنه لم يهتم بشعره أو إبداعاته الفنية كان وقته كله للناس حتي عندما قام بتحقيق أشعار ابن عروس التي أصدرها مصحوبة برسومه وحقق كتاب أغاني الصعيد لماسبيرو لم يستخدم علاقاته في نشر أي أخبار عنهما وظل يعمل في صمت لدرجة أن لا أحد يعرف أنه صاحب فكرة وضع لوحة فنية علي أغلفة مكتبة الأسرة التي كان يشرف عليها فنيا في هيئة الكتاب، فلقد كان يري أن كتبا تطبع لتنوير العقول لابد أن يطبع علي أغلفتها لوحات تشكيليه لنشر الذائقة الفنية بين القراء.. لم يكن الهندي مجرد فنان مجيد لكنه كان مثقفًا موسوعيًا يعرف دوره في نشر المعرفة بين المصريين ويعرف دوره في الصناعة الثقافية الثقيلة.. طب نفسا ياعم محمود فالوطن لا ينسي.