كان القس الكاثوليكي 'بيير جان دي سميت' المولود في بلجيكا عام 1801 واحداً من أنشط رجال الدين اليسوعيين 'الجوزويت' الذين اختاروا الحياة الرهبانية الزاهدة في العالم بملذاته الباطلة، وأطماعه الزائلة، لذا قرر أن يبحر إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو لا يزال في العشرين من عمره ليقضي بها نحو خمسة عقود انتهت بوفاته عام 1873. خمسين عاماً بذلها طواعيةً في خدمة مجتمع فقير، مهمش، مضطهد، من الهنود سكان أمريكا وأصحابها الأصليين.. وتأسيساً لذلك عكف الأب السَمِح في بداية مشواره علي تعَلُم لغاتهم، واستيعاب تقاليدهم، ودراسة مشاكلهم فصار واحداً منهم، وَثَقوا به وصادقوه فصدقوا كلماته حتي أنهم آمنوا بمعتقداته، تاركين الوثنية إلي الكاثوليكية التي عرفوها واعتنقوها عن طريقه. عاش القس الشهم مناصراً للهنود الحُمر في قضاياهم العادلة مقتنعاً بمشروعية حقوقهم التي سلبها المستوطنون الجدد، حيث شارك في المفاوضات التي دارت بينهم وبين الأمريكيين ساعياً لإبرام اتفاقية تضمن للهنود أرضهم وسلامتهم.. حتي عُرف 'دي سميت' بأنه صديق 'الثور الجالس' وهو لقب أكبر زعماء القبائل الذي قاد الهنود في مقاومتهم ضد المستعمرين البيض. وتكريماً له قامت جامعة سانت لويس بنصب تمثال يجسد 'دي سميت' واقفاً أمام اثنين يرتديان زي الهنود الحمر، وينظران إليه بانتباه أثناء قيامه بالصلاة لهما واضعاً يده اليمني علي كتف أحدهما، بينما اليسري ترفع صليباً. وتعد سانت لويس من الجامعات الأمريكية العريقة، أسسها أحد المطرانة الفرنسيين عام 1818، وحيث إنها تابعة لجماعة الآباء اليسوعيين، وتقع في ميسوري التي أمضي بها 'دي سميت' معظم سنوات غربته، فكان من المنطقي بل من الواجب أن تشيد له تمثالاً وتضعه داخل الحرم الجامعي تقديراً لدوره وافتخاراً بانتسابها إليه. لكن هذا كله لم يشفع عند مجموعة من الطلاب وعدد من موظفي الجامعة وأعضاء هيئة التدريس الذين اتحدوا جميعاً علي مطلب واحد هو: سرعة إزالة التمثال.. لماذا؟؟ لأنه من وجهة نظرهم يذكرهم بماضٍ كالح بغيض يودون لو ابتلعته موجات الأطلنطي أو دوامات المسيسيبي.. زمن الاحتلال والاستعمار والعنصرية الذي أُذِل فيه الملايين من أصحاب الأرض الأزليين وشُرِدوا واغتُصِبوا واستُعبِدوا قبل أن يُبادوا بالرصاص أو بالوباء.. واعتبروا أن التمثال يحيي مشهد سيادة البيض علي ما عداهم، ويوجه رسالة مختصرة للهنود الحمر مفادها: 'لن نعتد بوجودكم مادمتم لا تخضعون لثقافتنا وديانتنا'. تعاملوا بمنتهي الحساسية تجاه التمثال وأعلنوا رأيهم بحسم وإصرار مع أن 'دي سميت' كان بمثابة خيط النور الوحيد في ليلة دهماء.. ورغم كونهم أقلية والأغلبية تؤيد بقاء التمثال فقد نزلت الإدارة علي رغبة المعترضين ورفعت التمثال لتنقله من حرم الجامعة إلي متحف الفنون التابع لها!! فماذا لو كان 'دي سميت' يضع حذاءه علي رأس أحد الهنود!! [email protected]