لم يكن الحكم بإعدام عبد القادر عودة، وتنفيذه.. بعد ثلاث سنوات من الانتساب للإخوان.. دون فعل واضح، وإدانة محددة.. هو المفاجأة الوحيدة في حياة الرجل.. فحياته مليئة بالتناقضات والمفاجآت.. وأيضا بالقفزات غير المتوقعة.. فقد ولد عام 1903 بقرية كفر الحاج شربيني مركز شربين بمحافظة الدقهلية.. وحصل علي الشهادة الابتدائية من مدرسة المنصورة حوالي 1912.. وتقرر الاكتفاء بهذا القدر من التعليم.. وتحول إلي الاشتغال بالزراعة كفلاح محترف عبر أكثر من عشر سنوات.. ثم عاد للتعليم مرة أخري لأسباب لم يعن أحد بتفسيرها.. وقد تمكن من الحصول علي البكالوريا عام 1929.. والتحق بكلية الحقوق.. وتخرج فيها عام 1933.. وكان من أوائل الناجحين.. وعمره أكثر قليلا من الثلاثين.. فعمل بالمحاماة ثم بالقضاء حتي أصبح رئيسا لمحكمة جنايات المنصورة.. وكان من الممكن أن تستمر حياته كأي رجل قانون.. إلا أن 'الوعد' قد جاءه كما يقولون.. علي حين غرة.. وبعد 18 عاما من احتراف العمل بالشئون القانونية. ومن المعلوم أنه قد تم حل الإخوان في 8 ديسمبر 1948 وأعقبه اغتيال النقراشي باشا في 28 ديسمبر من نفس العام، أي بعد عشرين يوما من قراره بحل الإخوان.. ثم اغتيال حسن البنا في 12 فبراير 1949 بعد 45 يوما من اغتيال النقراشي.. وأجريت الانتخابات النيابية التي اكتسحها الوفد كالعادة وتشكلت الوزارة النحاسية أوائل عام 1950، وتصاعدت الحركة الوطنية ضد الاستعمار الانجليزي.. وخشي الملك فاروق من قوة الوفد وانفراده بالسلطة.. فدبر لعودة الإخوان من جديد بقيادة موالية.. فكان تعيين المستشار حسن الهضيبي مرشدا عاما.. في ظل ظروف مريبة.. وتكهنات.. واتهامات.. المهم أن الإخوان بدءوا العمل فورًا وقد اتخذوا لأنفسهم دارًا هي دار صالح عشماوي في حي الظاهر حيث أخذ الإخوان يفدون إليها.. ويجتمعون فيها كل ليلة سيما يوم الثلاثاء.. حيث يلقي درس الثلاثاء.. وكان أن زار المرشد الجديد الدار.. في أول وربما آخر درس من دروس الثلاثاء.. حيث لم يزد عن كلمة وجهها للإخوان.. قال: 'أرجون أن يكون كل واحد قرآنا يسير علي الأرض بالتخلق بأوامره والانتهاء عن نواهيه'.. ثم تحولت الجلسة إلي ما يهم المرشد الجديد.. وقد لاحظ بنفسه قوة ومكانة صالح عشماوي.. رجل البنا القوي.. ومؤسس التنظيم السري، وصاحب الهيمنة 'الأدبية' عليه.. وهو ما ضاعف من أرق وتوتر الهضيبي.. ولم يكن أمامه إلا عبد القادر عودة الذي عرفه بحكم الزمالة في العمل القضائي ليحميه من توغل صالح عشماوي ورجاله.. يقول د.عبد العزيز كامل في كل مذكراته: 'كان من المرشد الجديد إصرار علي أن يكون وكيله الأستاذ عودة.. حيث التقارب في الفكر والثقافة.. وقوة صحة فيه تمكنه من حمل مسئولية العمل'.. ومن ناحيته اندفع عبد القادر عودة.. كعادته.. رغم حداثه التحاقه بالإخوان.. وبعده عن التكتلات ومراكز القوي داخل الجماعة.. فجاهر بالعداء لصالح عشماوي وأنصاره.. وكل القيادات القديمة.. واقترح إنشاء مجلة جديدة 'غير الدعوة التي يرأس تحريرها وحق امتيازها صالح عشماوي' ولعب سيد قطب دورا في مساندة الهضيبي وعودة.. مع أن صالح عشماوي هو من قام بتجنيده وضمه للإخوان.. كان الهضيبي مستعدا لعمل أي شيء حتي يظل عبد القادر عودة إلي جواره.. ولو أدي ذلك إلي 'التزوير'.. وقد طرح فكرة ادراج عودة ضمن أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان.. بالمخالفة لقانون الجماعة الذي يشترط مرور خمس سنوات علي الأقل علي عضوية من يرشح لذلك الموقع.. فكان 'التزوير' الفاضح.. حيث قدموا خطابا مجرد خطاب من 'الإمام الشهيد حسن البنا' موجها لعبد القادر عودة بتاريخ سابق بالطبع.. وقد اعتبروه تزكية من المرشد المؤسس ودليلا علي صلة عودة بالإخوان لمدة تزيد علي خمس سنوات.. وبناء عليه تقرر ضمه إلي عضوية الهيئة التأسيسية.. وفي نفس الجلسة تم انتخاب هيئة مكتب الارشاد.. في عهد الهضيبي.. ومالازمها بالضرورة من ترتيبات.. أسفرت عن انتخاب عبد القادر عودة وكيلاً، ومنير دله أمينا للصندوق، وعبد الحكيم عابدين سكرتيرا.. بينما تقهقر صالح عشماوي وأنصاره.. فأصبح مجرد عضو.. ومعه الباقوري ومحمد الغزالي وعبد الرحمن البنا، وعبد العزيز كامل، حسين كمال الدين، فهمي أبو غدير، محمد خميس حميده، مختار عبد العليم المحامي، وحسب القانون تم ضم د.فريد عبد الخالق، حسني عبد الباقي للعضوية.. واعتبر صالح عشماوي زعيما للمعارضة في مواجهة الهضيبي ومعاونيه.. حيث تم استبعاده وأنصاره في الانتخابات التالية.. بحجة علنية.. موالاتهم لثورة 23 يوليو.. واعجابهم بقائدها جمال عبد الناصر.. وما يهمنا أن عبد القادر عودة أصبح من كبارة قادة الإخوان.. خلال أيام وشهور من التحاقه بالجماعة.. وسيطرت أوهام 'السمع والطاعة' علي الجميع.. حتي دفعت بالمؤرخ الرسمي للإخوان 'محمود عبد الحليم' في كتابه 'أحداث صنعت التاريخ' أن عودة 'كان من أحب الإخوان إلي الإمام الشهيد البنا بالطبع وكثيرا ما كان يذكره لنا بالفخر والاعتزاز'.. أما عمر التلمساني 'المرشد الثالث' فقال: كان عبد القادر عودة من الأعلام الذين لا تنطوي ذكراهم'.. وكان الهضيبي قد طالبه بالاستقالة وترك القضاء، للتفرغ للجماعة ومعاونته.. وكعادته.. اندفع الرجل.. فقدم استقالته.. ليعيش وسط نار الصراعات التي أسهم بدور أساسي في إشعالها.. ثم كان ضحية لها.. ومازلنا.. مع عبد القادر عودة..