كانت الأزمة بين ثورة يوليو والإخوان قد اتخذت طريقًا لا رجعة عنه.. وظل صالح عشماوي ومجموعته من المنبوذين المفصولين من الإخوان يصدرون مجلة الدعوة لفترة هاجموا فيها الهضيبي.. وأتباعه وموقفهم من الثورة.. ثم توقفت عن الصدور أول ديسمبر 1953.. وكان الهضيبي قد سعي لإيجاد البديل.. فحصل علي تصريح بإصدار صحيفة الإخوان برئاسة تحرير سيد قطب. ثم كانت الأحداث المعروفة بعد محاولة اغتيال عبد الناصر ومحاكمات الإخوان.. واختفاء الإخوان تمامًا.. بعضهم في السجون.. وبعضهم استقر في دول الخليج.. والبعض الثالث شد الرجال إلي دول أوربا.. بدعم دول الخليج المادي التي كانت تري في دعمهم دعمًا للدعوة الاسلامية. وفي عام 1965 اكتشفت السلطات في مصر وجود تنظيم جانبي أشرف عليه سيد قطب وزينب الغزالي وعدد يقل عن أصابع اليد الواحدة من قدامي الإخوان.. وقد تمكنوا من ضم عناصر جديدة.. شابة.. كان بينهم د.محمد بديع المرشد الثامن للإخوان.. وتمت محاكمتهم.. وأعتبر الموضوع منتهيًا.. وكأن شيئًا لم يكن.. وقيل وقتها إن الإخوان لن تقوم لهم قائمة. وعندما جاء أنور السادات.. تاليًا لجمال عبد الناصر.. كان إحساسه بالدونية قد ملك عليه نفسه.. وأراد أن يتحرر من قسوة المقارنة مع الزعيم الخالد.. ثم ينطلق في الطريق الذي هيأته له رؤاه.. وعوامل أخري كثيرة.. فأطاح بكل رجالات الأمن الناصري.. ولملم أصهاره ومعارفه وبعض الموتورين.. ليقيم بهم دولته.. ولكن الشكوك كانت تسد عليه جميع المسالك.. ورأي في القوي اليسارية والناصرية خطرًا عليه.. وتفتق ذهنه.. واستمع لمشورة من حوله.. وفتح أبواب السجون لمن يقضون عقوبات وقعها القانون علي عناصر الإخوان.. بل مَكَّنَ لهم.. ودفعهم لتجنيد العناصر الجديدة داخل الجامعات.. ولعب بعض رجاله دورًا في المساعدة والتمويل.. وعاد الصخب الإخواني لينتقم. في ذلك الوقت.. عام 1976.. كان صالح عشماوي قد بلغ السادسة والستين.. وكان في الأصل رجلاً ضعيف البنية.. يعيش بكلية واحدة.. ويحتفظ من سنواته الأربعين في صفوف الإخوان بتذكار.. هو رخصة صحيفة 'الدعوة' باسمه صاحبا للامتياز ورئيسًا للتحرير.. فاتكأ علي بعض زملائه من 'مطاريد الإخوان السابقين' وقد تقدمت بهم السن.. وضعف الجسم.. ووهن العظم.. وذهبوا إلي المرشد الهضيبي فقدموا اعتذارهم عن سوء فهمهم وتقديرهم لبعض الأمور.. التي وقعت قبل 23 عامًا.. أي في عام 1953.. وتقول صحافة الإخوان.. إن الهضيبي قبل اعتذارهم. كان الهضيبي يقضي أيامه الأخيرة.. ولاح في الأفق أن عمر التلمساني سوف يخلفه.. مرشدًا ثالثًا للإخوان.. فاتجه إليه صالح عشماوي.. وقدم له رخصة 'الدعوة' لتعود من جديد تنطق باسم الإخوان الذين شاء القدر لهم أن يعودوا عودة مظفرة.. ويفتتحوا لجريدتهم مقرًا في قلب العاصمة.. وقبلها عمر التلمساني.. وكأنه يمنح صالح عشماوي صك الرضا.. والعفو عند المقدرة.. وكأنه يقبل توبته.. وهو الكهل المريض.. الذي يصارع أيامه الأخيرة. وإذا كان الله سبحانه يغفر الذنوب جميعًا إلا أن يشرك به.. فإن الإخوان يغفرون ذنبًا واحدًا أيا كان حجمه.. وأيا كان تأثيره.. وتظل الضغينة قابعة في زاوية من النفس الإخوانية.. حتي تأتي اللحظة المناسبة للانتقام.. الذي قد يصل إلي القتل.. وهم يعتبرون ذلك نوعًا من التربية.. وفي أدبياتهم ومذكرات قادتهم أن خطأ واحدًا يمكن أن يبيح دمك.. مهما كان 'جهادك' السابق.. ومهما قدمت للجماعة وقادتها ومهما ضحيت بدمك ومستقبلك وأسرتك. وخطيئة صالح عشماوي وصحبه ليست بسيطة في عرف الإخوان وقانونهم.. فقد طالب به أنصاره مرشدًا بدلاً من الهضيبي.. واحتلوا المركز العام للإخوان.. وداهموا منزل الهضيبي ليجبروه علي الاستقالة.. بعد أن رفضوا سياسته وموقفه من الثورة.. قبل 23 سنة.. والزمن عند الإخوان لا يهدئ نارًا.. ولا يضعف حقدًا.. ولا يشفي من غلِّ.. ولو كان صالح عشماوي قادرًا علي السير.. ربما كانت فتواهم بتصفيته.. ولكنه في كهولته وضعفه يمكن أن يتحمل عقابًا من نوع آخر.. عقابًا يلحظه الجميع.. ويرونه.. ويكون عبرة. وفي ذلك كتب الداعية 'محمد أحمد الراشد' في مذكراته: كان الأستاذ صالح عشماوي رحمه الله ورفع درجته من قدماء الدعاة ورجال الرعيل الأول.. ولبث مع الإمام المؤسس دهرًا كأحسن ما يكون الداعية عملاً.. وأصبح عضوًا بمكتب الإرشاد ووكيلاً للجماعة وكان بيته قبلة لقادة الإسلام من أنحاء الدنيا، فلما قتل البنا والمحنة جاثمة: اختلطت الأوراق واشتبهت الأمور وتحركت الوساوس فافتن نفر وجعلوا الاستاذ عشماوي رئيسًا عليهم.. ثم مرت السنوات الحالكة.. وطالت المحنة.. فندم علي كل ما كان منه.. وطلب أبلغ صور التوبة النصوح. ثم يكمل الداعية 'محمد أحمد الراشد' ما سجله في مذكراته.. بعد قرار السادات بعودة الإخوان.. وانطلاق صحيفتهم الشهيرة.. من مقرها العلني وسط العاصمة.. قال: 'وقد زرت دار مجلة 'الدعوة' يومًا.. فوجدت شيخًا وقورًا يجلس بتواضع علي كرسي خيزران قديم خارج باب الشقة.. كأنه البواب.. ولكنه مهيب.. وله طلعة نورانية.. فسلمت عليه واستأذنته.. فأذن.. فدخلت'. وكان المفاجأة التي لم أتهيأ لها.. 'قال لي أخ ممن هناك: هل عرفت ذاك الرجل المحترم الذي.. كأنه بواب؟.. قلت: لا.. ولكنه استرعي انتباهي.. قال: ذلك صالح عشماوي. *** لا يهم بعد ذلك ما قدموه من تفسيرات تخدم أيضًا وجهة نظرهم.. مثل انه 'رأي نفسه قد استروحت يوم جعله المشاكسون رأسًا ونادوا به أميرًا ومرشدًا.. فعزم أن يرجع جنديًا في آخر الصف.. ويصر علي أن ذلك من تمام توبته.. فاختار ان يكون بوابا.. '. وهكذا.. جعلوا من رائد الصحافة الإسلامية.. ومؤسس ورئيس تحرير جميع الصحف التي أصدرها الإخوان.. بواب الصحافة الاسلامية.. وعمومًا فلم تستمر الدعوة أكثر من أربع سنوات حيث عصف بها السادات في سبتمبر 1981 واعتقل التلمساني المسئول عنها.. وصالح عشماوي البواب المعتمد الذي توفي بعدها بعامين تاركًا ولدًا وبنتين.. وذكريات أغرب من الخيال.. يرحمه الله.