الفن العظيم أخلاقي عظيم.. والمثقفون الإنسانيون الكبار حراس مستأمنون علي القيم الإنسانية العليا. والروائي المصري العالمي نجيب محفوظ واحد من هؤلاء الفنانين والمثقفين الكبار. فهو أبو الرواية العربية بامتياز. وهو صائغ التاريخ المصريّ صياغة روائية مؤثرة منذ عهد الفراعنة حيث: 'كفاح طيبة' و'رادوبيس' و'عبث الأقدار' وحتي نهاية القرن العشرين. وهو صاحب رؤية فلسفية شاملة يمكن استخلاصها من روايتيه 'أولاد حارتنا' و'ملحمة الحرافيش'. وهو ذو خيال متوحش ومجرب كبير وصانع أشكال فنية تجمع بين الأصالة والحداثة. وهو صاحب الاستبصارات العميقة التي تسبر أغوار النفس الإنسانية. وهو فوق كل ذلك حارس عتيد من حراس القيم العليا. وإضافته إلي التراث الإنساني، وما أحدثه في تيار اللغة العربية من أثر، يشهد بهما كل من يطالع أعماله في الشرق والغرب. في الحكاية السادسة من 'ملحمة الحرافيش' وعنوانها 'شهد الملكة'، نستطيع أن نلمح موقف نجيب محفوظ من القوة المادية، فهو يخبرنا من طرف خفي وبتكنيك المفارقة الحادة، كم هي مدمرة هذه القوة المادية ومؤدية إلي تعاسة الحال وبؤس المآل. فأبطال الحكاية جميعًا يلهثون خلف مظاهر القوة المادية من مال وجاه وسلطان وتكالب علي الشهوات وغرق في الملذات. ومحور كل ذلك 'زهيرة' الشخصية المحورية في الحكاية، والتي يتنافس علي شهدها كل الذكور المحيطين بها من 'عبده الفران' إلي 'محمد أنور'، تاجر البطارخ، إلي الفتوة الطاغية 'نوح الغراب' إلي 'عزيز الناجي' الرجل النبيل سليل عائلة الأمجاد والفتونة، إلي مأمور القسم 'فؤاد عبد التواب' ولم ينل هؤلاء الذكور الحالمون بشهد الملكة إلا القتل والتشريد والمنافي والجنون والاغتراب. أما 'زهيرة' بطلة الحكاية، فهي ذلك النموذج البشريّ الذي يحلم بامتلاك القوة المطلقة، القوة غير العادية التي لم يمتلكها أحد من قبل. ومؤهلاتها لامتلاك هذه القوة هي الجمال الأسطوريّ أو كما تصفها الحكاية بأنها 'ما من رجل رآها إلاّ وجُنّ بها' وقد استثمرت هذا الجمال كأسوأ ما يكون الاستثمار. ومن مؤهلاتها كذلك نفس شرهة طموحة، وفلسفة وحيدة في الحياة قوامها أن 'القوة كفيلة بأن تغيّر أبعاد الكون' و'لا غني عن القوة، ولا غني عن المال. المال يخلق القوة، والقوة تخلق المال'، وتصل ذروة نشوتها السكري بالقوة فتري نفسها 'سيدة الكبرياء وأحق الناس به بما وهبها لله من جمال وذكاء. آمنت بأنها فتوة في إهاب امرأة وأن الحياة المقدسة لا تمتثل إلا للأقوياء'. أما عن القيم الأخري، أو القوة الحقيقية التي تكمن في قوة الحق والحب والتواضع والرحمة فلم تعرف إلي نفس 'زهيرة' سبيلاً. حاجتها إلي الحب وعندها الطعام والقبلة والسرير؟! بل إنها لتنظر إلي الحب نظرة ملؤها السخرية والاحتقار، فما هو في فلسفة حياتها 'إلا متسول ضرير يزحف في أركان الأزقة' وهي لا تري في كل المحيطين بها إلاّ مصادر لرحيق القوة التي سرعان ما تمتصها منهم ثم تقذف بهم وتلفظهم كالنواة العارية بلا رحمة أو اعتراف بالجميل. فما موقف نجيب محفوظ من هذا النوع من القوة؟ لا شك أن نجيب محفوظ يري القوة الحقيقية في كل القيم المناقضة لما اتسمت به 'زهيرة' وماحولها من تيه بالقوة المادية، وسعي محموم للاستزادة من أسبابها. يراهها في الإخلاص الذي افتقرت إليه شخصية 'زهيرة' فقد جعلت من كل زوج من أزواجها درجة سُلّم تدوس عليها بقدميها في رحلة الصعود إلي قوة المجد ومجد القوة، يراها في الحب وقد نكَّلت 'زهيرة' بكل من أحبوها وفتنوا بجمالها واحتقرتهم ولم تحب في حياتها حبًا حقيقيًا، يراها نجيب محفوظ كذلك في التواضع والعيش بدنيا الناس وعدم التعالي عليهم بعد أن صوّر لزهيرة طموحها المجنون وخيالها الجامح 'أنها تمتطي نسرًا خرافيًا ترف جناحاه بالقوة والإلهام والخلق'. ويعلن نجيب محفوظ موقفه النهائي العمليّ من هذه القوة المادية المتوحشة التي تجسدت في شخصية 'زهيرة' حين يرسم مشهد نهايتها الدموية المفجعة، دون أن تحظي بنظرة عطف أو تعاطف أو شفقة. وقد جاءت نهايتها المأساوية علي يد أحد ضحاياها، وهو زوجها السابق محمد أنور، الذي 'رفع عصا غليظة وهوي بها بكل قوته علي رأسها النبيل الجميل فتهاوت علي الأرض صارخة. وظل يضرب الرأس بوحشية حتي هشمه تمامًا غير مبالٍ ببكاء جلال وراضي. لم يبق من وجه البهاء والجمال إلا عظام محطمة غارقة في بركة من الدم'. فهل نتأسي بعد هذا المصير المفزع ونقول: شتان ما بين المبدأ والختام أم نقول: إنه الجزاء العادل لجنون القوة الذي لا يولّد إلا جنون الوحشية والانتقام؟!