قناة اسرائيلية تلقى الضوء على رجل الأعمال إبراهيم العرجانى واتحاد القبائل العربية    تقديم رياض أطفال الأزهر 2024 - 2025.. الموعد والشروط    السفير الروسي بالقاهرة: الغرب يسعى للهيمنة وإنشاء قاعدة معادية لموسكو في أوكرانيا    "عليا الوفد" تلغي قرار تجميد عضوية أحمد ونيس    إحباط تهريب 13 طن قمح محلي بالطريق الدولي في الساحل الشمالي    تفاصيل إتاحة البنك المركزي الدولار لجميع المستوردين دون استثناء    أفضل 3 أنواع في سيارات مرسيدس "تعرف عليهم"    وفد إعلامى باكستانى يزور جريدة الشروق    مجموعة تطلق على نفسها "طلائع التحرير مجموعة الشهيد محمد صلاح" تعلن مسؤوليتها عن قتل "رجل أعمال إسرائيلي-كندي بالإسكندرية"،    رئيسة المنظمة الدولية للهجرة: اللاجئون الروهينجا في بنجلاديش بحاجة إلى ملاجئ آمنة    منافس الأهلي.. الترجي يودع كأس تونس أمام فريق درجة ثانية    بتهمة الرشوة.. السجن 5 سنوات ل نائب رئيس جهاز مدينة القاهرة الجديدة    حر ورياح مثيرة للأتربة.. الأرصاد تكشف عن حالة طقس الخميس    وفاة والدة الفنان كريم عبدالعزيز    مناقشة تحديات المرأة العاملة في محاضرة لقصور الثقافة بالغربية    «اللهم ذكرهم إذا نسوا».. أدعية للأبناء مع بدء موسم الامتحانات 2024    الصحة: اكتشاف 32 ألف حالة مصابة ب الثلاثيميا من خلال مبادرة فحص المقبلين على الزواج    «هيئة المعارض» تدعو الشركات المصرية للمشاركة بمعرض طرابلس الدولي 15 مايو الجاري    أسهم أوروبا تصعد مدعومة بتفاؤل مرتبط بنتائج أعمال    جمعية المحاربين القدماء تكرم عددا من أسر الشهداء والمصابين.. صور    أخبار الأهلي: تعرف على برنامج تأبين العامرى فاروق فى النادى الأهلى    عبد الرحيم كمال بعد مشاركته في مهرجان بردية: تشرفت بتكريم الأساتذة الكبار    جامعة العريش تحصد كأس المهرجان الرياضي للكرة الطائرة    دعاء للميت بالاسم.. احرص عليه عند الوقوف أمام قبره    هل الحزن اعتراض على قضاء الله؟.. 3 علامات للرضا والتسليم اعرفها    جونياس: رمضان صبحي أخطأ بالرحيل عن الأهلي    «القاهرة الإخبارية» تعرض تقريرا عن غزة: «الاحتلال الإسرائيلي» يسد شريان الحياة    "التعاون الإسلامي" والخارجية الفلسطينية ترحبان بقرار جزر البهاما الاعتراف بدولة فلسطين    محافظ الفيوم يشهد فعاليات إطلاق مشروع التمكين الاقتصادي للمرأة    يوسف زيدان عن «تكوين»: لسنا في عداء مع الأزهر.. ولا تعارض بين التنوير والدين (حوار)    انطلاق الموسم الأول لمسابقة اكتشاف المواهب الفنية لطلاب جامعة القاهرة الدولية    المشدد 10 سنوات لطالبين بتهمة سرقة مبلغ مالي من شخص بالإكراه في القليوبية    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    "الصحة" تعلن اكتشاف 32 ألف حالة مصابة ب "الثلاسيميا" في مصر    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    بعد حلف اليمين الدستوري.. الصين تهنئ بوتين بتنصيبه رئيسا لروسيا للمرة الخامسة    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    مرصد الأزهر: استمرار تواجد 10 آلاف من مقاتلي داعش بين سوريا والعراق    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    30 جنيهًا للعبوة 800 جرام.. «التموين» تطرح زيت طعام مدعمًا على البطاقات من أول مايو    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    سحر فوزي رئيسا.. البرلمان يوافق على تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة.. يتألف من 13 عضوا.. وهذه تفاصيل المواد المنظمة    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ والمشوار الطويل
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 12 - 2011

مشوار طويل في الفن والحياة‏..‏ طوله بالسنوات‏77‏ عاما‏.‏ وطوله بالأعمال الفنية‏49‏ عملا أدبيا بين رواية وقصة قصيرة ومسرحية‏. أما البطل فهو رجل متوسط الطول نحيف جدا يعاني من مرض السكر وضعف السمع.. ولكن قلبه ملئ بنور الحب وذكاء المعرفة وقوة النبوغ. وهذا البطل رجل شديد التواضع, صاحب نفس قوية لا تعرف الجزع الشديد ولا تعترف بالأفراح الصاخبة, ولكنها نفس تعف المواجهة الدافئة القوية لكل الأفراح والأحزان. بطل المشوار رجل ينظر إلي الأمام, فإذا وجد في طريقه طوبة, انحني وحملهابيديه وألقي بها في هدوء إلي جانب الرصيف حتي لا تعوق مسيرة الآخرين. يحب الجميع, لأنه يحب الجميع, ولا يعرف قاموسه كلمة الكره. تستطيع مع صاحب هذا المشوار أن تصافحه في أي وقت, وأن تمشي معه وتتحدث إليه في أي موضوع, ولن يردك الرجل, أو يرفض مودتك وصداقتك, حتي وكنتما تلتقيان لأول مرة.. يلبس ملابس نظيفة, ولكنها غاية في البساطة, ويرفض طيلة حياته أن يقيد نفسه بأي رباط عنق.. كان أمامه أن يكون صاحب جاه ومنصب ومال. ولكنه آثر أن يكون صاحب قلب وقلم, ورضي بأن تكون ثروته الستر واحتفظ بابتسامة الرضا علي شفتيه, ودفء المشاعر الكريمة في قلبه. يمشي علي قدميه منذ نصف قرن خمسة كيلو مترات كل يوم.. ولم يغير هذه العادة في أي يوم من الأيام.
مشوار طويل ورائع. صاحبه هو نجيب محفوظ.. ولد في حي الحسين ووصل به مجده إلي جائزة نوبل في استكهولم عاصمة السويد. وكانت أول جائزة نالها هي جائزة صغيرة من وزارة المعارف المصرية في الأربعينيات, أما آخر الجوائز فهي جائزة نوبل التي نالها يوم الخميس13 أكتوبر.1988 وبين النقطة الأولي والنقطة الأخيرة مشوار له تاريخ. وهذه لمحات من هذا المشوار.
مشوار طويل في الفن والحياة, ذلك هو المشوار الذي قطعه نجيب محفوظ منذ مولده في11 سبتمبر سنة1911 إلي يوم الخميس13 أكتوبر سنة1988, وهو اليوم الذي اعلنت فيه الأكاديمية السويدية في الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت القاهرة اختيار نجيب محفوظ من بين150 مرشحا لمنحه جائزة نوبل في الآداب, وقيمتها المادية393 ألف دولار, وهي قيمة تتغير كل عام حسب قيمة الأرباح التي تحققها الأموال التي رصدها ألفريد نوبل لجائزته التي بدأت سنة.1901 كان أول أجر تقاضاه نجيب محفوظ عن قصة قصيرة له نشرته له مجلة الثقافة التي كان يرأس تحريرها الكاتب العربي الكبير أحمد أمين هو جنيها مصريا واحدا, ومن هذا الجنيه الواحد إلي الثلاثمائة وثلاثة وتسعين ألف دولار.. يمتد المشوار الطويل الباهر لنجيب محفوظ. ويذكرنا مشوار نجيب محفوظ بمشوار ام كلثوم ومشوار طه حسين.
فقد بدأت أم كلثوم مشوارها أيضا في العاشرة من عمرها سنة1908, وكانت تتقاضي ملاليم قليلة عن الغناء في الأفراح الريفية, أو حفلات القري التي كانت تنتقل إليها علي قدميها او علي ظهر حمار, مع والدها الشيخ إبراهيم, وظلت ام كلثوم تصعد حتي أصبحت تتقاضي عن الأغنية الواحدة مئات الآلاف من الجنيهات, بالإضافة إلي أنها احتلت عرش الحب والإعجاب في قلوب الملايين من أبناء العرب, ومازالت تحتل هذه المكانة في القلوب العربية إلي الآن.
ومشوار نجيب محفوظ وأم كلثوم يشبه مشوار طه حسين أيضا. قد بدأ طه حسين من قريته الصغيرة في المنيا حيث ولد سنة1889, ووصل إلي القاهرة ليتعلم في الأزهر, وبدأ حياته العامة سنة1906 وكان فقيرا لكنه يملك الإرادة الإنسانية الكبيرة التي فتحت له آفاق التطور والتقدم, وعندما اراد طه حسين في شبابه أن يتعلم اللغة الفرنسية لم يجد لديه قيمة المصروفات التي كان ينبغي أن يدفعها للمدرسة المتخصصة في تعليم الفرنسية, فدفع له المصروفات زميله وصديقه أحمد حسن الزيات. وظل طه حسين يصعد ويصعد حتي أصبح وزيرا للمعارف بين سنة1950 وسنة1952, وأصبح في نفس الوقت باختيار الجميع عميدا للأدب العربي المعاصر, كما أصبح صوته من الأصوات العظيمة التي تحظي بالاحترام والمهابة في كل المحافل الفكرية في العالم. مشوار نجيب محفوظ واحد من هذه المشاوير المجيدة والبطولية, وقد انتهي المشوار الطويل بوقوفه علي أعلي قمة أدبية وهي قمة نوبل لأول مرة في تاريخ الأدب العربي منذ أن بدأت الجائزة إلي الآن. ولد نجيب محفوظ في حي الجمالية وهو قلب القاهرة القديمة التي بناها جوهر الصقلي منذ اكثر من ألف عام, وفي هذا الحي الأصيل يعيش أبناء الشعب جيلا بعد جيل, خاصة هؤلاء الذين لم ينتقلوا إلي الأحياء الارستقراطية التي نشأت في بدايات هذا القرن, مثل حي الحلمية وحي العباسية, أو الأحياء الأرستقراطية الجديدة التي ظهرت في الثلاثينيات والأربعينيات مثل جاردن سيتي والزمالك, ومن حي الجمالية الذي ولد فيه نجيب محفوظ عرف الفنان العظيم تفاصيل الحياة الشعبية التي انعكست علي أدبه. وظل حريصا علي استخدامها بصورة دائمة, في معظم رواياته وقصصه, ولم يتخل في هذه التفاصيل خلال رحلته الفنية الطويلة, والتي انتقلت بين العديد من المدارس الفنية المختلفة. ومن حي الجمالية أخذ نجيب محفوظ فكرة الحارة التي أصبحت عنده رمزا للمجتمع وللعالم, أي أصبح رمزا للحياة البشرية.
ومن حي الجمالية أخذ شخصية الفتوة التي تظهر كثيرا في أدبه, والفتوة عند محفوظ هو رمز السلطة في كل وجوهها وتقلباتها المختلفة بين العدل والظلم, والسماحة وضيق الأفق, والعنف والاعتدال, والشهامة أحيانا, وكسر رقاب الناس في أحيان أخري. عين نجيب محفوظ الأدبية لاتغفل أبدا عن استخدام هذه التفاصيل التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من أدبه, والتي عرفها, أحبها منذ نشأته الأولي في حي الحسين, ولم يتوقف نجيب محفوظ, مثلما فعل غيره عند الرؤية الخارجية للحارة والفتوات والأجواء الشعبية, بل كان علي الدوام يخرج من الإطار الواقعي, إلي المعاني الإنسانية الكبيرة, ففي رواياته الأولي مثل خان الخليلي كانت الحارة صورة حية لمجتمع مصر في صراعاته وتطوراته المختلفة مع كل جديد في الحضارات الحديثة.
وفي مرحلة أدبية أخري تصبح الحارة أكبر من المجتمع نفسه, وتتحول إلي صورة العالم كاملا وما فيه من افكار ومصائر وأقدار وصراعات هائلة, وهذا ما نجده بوضوح في روايتين من أهم روايات نجيب محفوظ, هما أولاد حارتنا الممنوعة, وياللعجب من النشر في مصر حتي الآن, والحرافيش التي اعتبرها كثير من النقاد بحق ملحمة روائية بالغة العمق والقيمة والمتعة. في هاتين الروايتين: أولاد حارتنا, والحرافيش بحث فني عميق وممتع حول صراع الإنسان من أجل المعرفة والعدالة والتوازن مع النفس والمجتمع والحياة.
وفي هاتين الروايتين أحداث مثيرة وفلسفة عميقة وشخصيات تقفز من شدة حيويتها في الصفحات, وتتجسد أمامنا كأنها بشر نعرفهم ونراهم ونتعامل معهم كل يوم. من حي الجمالية انتقل نجيب محفوظ إلي حي العباسية, مع اسرته, وقد انتقل كثيرون من الجمالية إلي العباسية, فقد كانت العباسية في بدايات هذا القرن امتدادا عمرانيا حديث النشأة للأحياء الشعبية المجاورة, وفي أول الأمر انتقلت إليها الأسر الأرستقراطية التي تمكنت من بناء عدد من القصور ثم انتقلت إليها الطبقة المتوسطة التي من بينها أسرة نجيب محفوظ, وفي حي العباسية التقي نجيب بعدد من زملائه وأبناء جيله, وأصدقائه الكثيرين, ومنهم عبد الحميد جودة السحار, وإحسان عبد القدوس, والدكتور أدهم رجب الذي أصبح أستاذا ورئيسا لقسم الطفيليات بكلية طب قصر العيني, وللدكتور أدهم رجب بالتحديد ذكريات طريفة وجميلة عن هذه الفترة من حياة نجيب محفوظ, وهي فترة الشباب الأولي, يقول الدكتور أدهم رجب: كان نجيب محفوظ لاعب كرة من طراز نادر, في أيام الصبا في العباسية, كان محاورا ومناورا كرويا, لو استمر لنافس علي الأرجح حسين حجازي والتتش ومن بعدهما عبد الكريم صقر, ثم الضظوي, وأقول الحق, وأنا أشهد للتاريخ, لم أر في حياتي حتي الآن, وأنا مدمن كرة فأنا شاهد عدل, أقول: لم أر لاعبا في سرعة نجيب محفوظ في الجري. كان أشبه بالصاروخ المنطلق.. وكان هذا يلائم الكرة في عصر صبانا, ففي شبابنا الباكر كان عقل اللاعب في قدميه, وكان اللاعب القدير هو اللاعب الفرد الذي ينطلق بالكرة كالسهم نحو الهدف لايلوي علي شيء.. كان عقل نجيب محفوظ أيامها في قدميه. ثم يقول الدكتور أدهم رجب: ومرت الأيام وانتقل عقل نجيب محفوظ إلي رأسه, وأصبح ذا فضل علي لاينكر, إذ أنه هو الذي تولي توعيتي سياسيا أيام كنت طالبا في الطب.. كانت ميولي إذ ذاك ضد القمصان الزرق عماد شباب الوفد لأسباب شخصية تتصل بشخصية زعيم هؤلاء الشباب, وكان زميلا لنا, ولا داعي للإفاضة, فتولي نجيب محفوظ مهمة تثقيفي سياسيا وتعليمي كيف اكون موضوعيا في تفكيري, وشرح لي التركيبة السياسية للنظام الاجتماعي القائم وقتذاك, وكيف أن الوفد.. رغم القمصان الزرق هو الذي كان يقف إلي جانب الشعب في ذلك الوقت لأنه هو الشعب, وبفضل نجيب محفوظ فتحت عيني علي حقائق كثيرة.
وقد حصل نجيب محفوظ علي البكالوريا اسم الثانوية العامة وقتها ودخل قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة, وكان اسمها قبل الثورة جامعة فؤاد الأول, وتخرج فيها سنة.1934 أخذ نجيب محفوظ عن سلامة موسي أستاذه الثاني نزعته التجديدية وتطلعه إلي الحضارة الحديثة وحماسه لفكرة العدالة الاجتماعية, واهتمامه بالبحث عن أصول الشخصية المصرية في جذورها الفرعونية.
وأعتقد أن التكوين الأساسي الأول لنجيب محفوظ هو مزيج من مصطفي عبد الرازق وسلامة موسي, مزيج من النظرة المستنيرة إلي التراث العربي والإسلامي, والتطلع إلي التجديد الحضاري, والدعوة إلي العدالة الاجتماعية, ورد الاعتبار إلي الجذور القديمة للشخصية المصرية. لقد امتزج الاستاذان في شخص نجيب محفوظ, وخرجت من هذا الامتزاج شخصية فكرية وأدبية مليئة بالحيوية والاستقلال والموهبة.
وعندما تخرج نجيب محفوظ سنة1934 في الجامعة عمل موظفا, واستمر مرتبطا بالوظائف الحكومية المختلفة حتي أحيل إلي المعاش في ديسمبر1972, ومن بين الوظائف التي شغلها سكرتير برلماني لوزير الأوقاف, وكان الذي اختاره لهذه الوظيفة هو أستاذه الأول مصطفي عبد الرازق عندما أصبح وزيرا للأوقاف, إلي أن انتقل سنة1955 إلي وزارة الإرشاد القومي, كما كانت تسمي في ذلك الوقت, وعندما انقسمت هذه الوزارة إلي وزارة ثقافة ووزارة إعلام, انتقل نجيب محفوظ إلي وزارة الثقافة وظل فيها حتي نهاية عمله الوظيفي. لن تجد في مشوار حياة نجيب محفوظ أي طفرات مفاجئة, فحياته تمشي بانتظام هادئ, وليس فيها أي مسحة من الاستعجال أو الانفجارات, أو الأحداث الكبري, فقد تميز نجيب منذ بداية وعيه, بما يسميه هو نفسه الواقعية في النظر للأمور, فلم يكن يخدع نفسه أبدا, ولم يكن يتعلق علي الإطلاق بأي أحلام صعبة أو طموحات مستحيلة, وظل علي الدوام محتفظا بصفاء ذهنه وسلامة قراراته الشخصية فيما يتصل بحياته وأدبه. ونستطيع هنا أن نشير إلي عدد من القرارات والمواقف المهمة والأساسية في حياة نجيب محفوظ. من ذلك رفض طيلة حياته أن يعمل بالسياسة, رغم أن كتاباته الروائية والقصصية جميعها علي التقريب قائمة علي فهم عميق للسياسة, ومتابعة دقيقة لأحداثها المختلفة, فنجيب في فنه كاتب سياسي من الدرجة الأولي.
وسبب انصراف نجيب محفوظ عن السياسة العملية هو أنه حدد لنفسه بدقة دائرة الحركة, فقد اختار أن يكون كاتبا وأديبا ولا شئ غير ذلك, ومن خلال الأدب يستطيع أن يعبر عن مشاعره ومواقفه وأفكاره السياسية, أما العمل السياسي المباشر, فهو شيء آخر لم يقترب منه نجيب محفوظ قط, لأنه كان كفيلا بأن يجره إلي دوامة عنيفة تعوق عمله الأدبي الذي يحبه ويري أنه قادر علي أن ينجز فيه شيئا مثمرا إذا ما أعطاه حقه من الجهد والتفرغ والإخلاص.. وقد أعطاه الكثير من هذا كله.
ومن هذه القرارات الحاسمة في حياة نجيب محفوظ أنه وضع خطا فاصلا بين الأدب والصحافة, فاختار الأدب, ورفض العمل بالصحافة رفضا قاطعا رغم الإغراءات الكثيرة التي قدمتها إليه مؤسسة صحفية كبري ليترك وظيفته الحكومية ويتفرغ للعمل الصحفي, وقد رأي نجيب بحق أن العمل الأدبي إذا ما فقد روح الاستقلال وأصبح مرتبطا بعجلة الانتاج الصحفي السريع المتلاحق فإنه يتعرض لضرر كبير, وعندما ارتبط نجيب بصحيفة الأهرام حوالي سنة1959 كان هذا الارتباط أدبيا وليس صحفيا, أي أنه لم يكن مرتبطا بالعمل الصحفي اليومي الدائم, بل كان هذا الارتباط قائما علي أساس واحد, وهو أن يقدم نجيب محفوظ أعماله الأدبية التي ينجزها في الوقت المناسب له, وذلك لنشرها في الجريدة.
وتلك نقطة دقيقة قد لايلتفت إليها كثيرون, ورغم أنها كانت سببا في اضطراب عدد من الأدباء في جيل نجيب محفوظ وبعد جيله, لأن العمل الصحفي قد فرض نفسه علي أدبهم, فكانت كتاباتهم القصصية والروائية قائمة علي الاستجابة لسرعة الصحافة, وتوفير السهولة والإثارة للعمل الأدبي حتي يحقق النجاح الصحفي المنشود.
أما نجيب محفوظ فقد استطاع أن ينجو من هذه الدوامة التي ابتلعت عددا من الأدباء الموهوبين, وإن لم يكن القرار سهلا, لأن إغراءات الصحافة كثيرة, ولكن نجيب محفوظ توصل إلي هذا القرار ولم يتردد فيه بسبب ما أشرت إليه من صفاء ذهنه ودقة خطته في الحياة. ومن قرارات نجيب محفوظ أيضا أنه لم يتعجل في الزواج, وبناء أسرة له, فقد تزوج بعد أن تجاوز الأربعين من عمره, وكان دافعه الأساسي في هذا الأمر هو ألا يربك حياته في مراحلها الأولي بمسئوليات قد تؤدي إلي تعطيله عن اعطاء أدبه ما يحتاج إليه من تفرغ واهتمام, وهذا ولا شك نوع من التضحية, ولكن نجيب تقبلها دون شكوي أو مرارة. وبعد أن تزوج نجيب محفوظ حرص علي أن يكون هناك توفيق بين حياته العامة وحياته الخاصة, وهذا أيضا نموذج من النماذج التي تدل علي صفاء ذهنه وحسن تقديره للأمور, فالاختلاط بين الحياة العامة والخاصة كثيرا ما يؤدي إلي الاضطراب والفوضي في كل شيء. وعلي الإجمال فإن نجيب محفوظ قد استطاع أن يقيم في حياته مجموعة من التوازنات الدقيقة أدت جميعها إلي أن يعطي لأدبه في حياته مكانا ثابتا, وخصص له جهدا دائما منتظما.وأبعدته هذه التوازنات إلي حد كبير عن بعض العواصف التي أثرت في حياة الكثيرين من المثقفين في جيله,والأجيال التالية, ويكفي هنا أن نشير إلي العواصف السياسية وتلقباتها وما يترتب علي الانغماس فيها من مصاعب ومنغصات كثيرة, وخاصة إذا ما اصطدم رأي الكاتب والفنان برأس السلطة, وليس معني ذلك أن نجيب يرفض الأدباء العاملين في السياسة, بل هو يري أن كل انسان ميسر لما خلق له. وإذا أردنا أن نخرج من كل ذلك بملامح عامة لشخصية نجيب محفوظ, قلنا إنه شديد الصبر, صاحب بال طويل, وصدر واسع, وأنه بعيد عن أي طموح قائم علي الخيالات والأوهام والتسرع في التقدير, وهو يحرص علي الاجتهاد في تقديم أفضل ما لديه, ثم يترك النتائج تأتي وحدها دون أن يجري وراءها أو يرهق نفسه بما تحقق منها وما لم يتحقق, وهو يتمتع بنفسية شديدة التسامح والاستعداد للرضا بما تأتي به الأيام, وقد ساعده علي ذلك كله ولاشك أنه ابن بلد خفيف الظل, حاضر النكتة, سريع البديهة. ويمكننا أن نتوقف هنا قليلا لنقرأ ما كتبه عنه صديق شبابه الدكتور أدهم رجب حيث يقول: كان نجيب محفوظ ابن نكتة, وكان في رمضان يصحبنا إلي مقهي الفيشاوي القديم في اواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات, حيث كان هناك أولاد نكتة محترفون يتصايحون بالنكت الجنسية السافرة, ويا ويل من يستلمون قافيته,.. كان نجيب يتصدي لهم بمقدرة غريبة علي توليد الأفكار وتحقيقها بنكت فيجعلهم أضحوكة الجميع, وكان صوته جهوريا, وخارقا في سرعة ابتداع الفكرة, حتي انه كان يتصدي لعشرين دفعة واحدة بالنكتة تلو النكتة حتي يسكتهم جميعا, وكنا نحن رفاق صباه ننقلب إلي مطيباتية له, فإذا بخصومه ينضمون إلينا ويصبحون هم الآخرون مطيباتية له,.. كان رجلا جبارا في النكتة إلي حد أنه كان يضحك خصومه علي أنفسهم. ذلك هو نجيب محفوظ كما يصفه صديقه بحق منذ صباه حتي الآن,.. ابن بلد حقيقي.. محب للضحك والحياة, يستعين بالنكتة علي مصاعب الدنيا, يخفف بها ما يلقاه من منغصات واحباطات, ولا شك في أن الروح المرحة قد ساعدت علي نجاح محفوظ في تكوين درجة عالية من الاحتمال في شخصيته. بالطبع لم يعد نجيب محفوظ كما كان في شبابه صاحب نكتة مجلجلة وضحكة صاخبة فقد أكسبته الأيام ومرور السنين كثيرا من الرصانة.. ولعل أحزان قلبه وأشجانه قد زادت فأصبح شديد التحكم في روح الفكاهة تملأ صفحات أدبه, وإن كنا نجد أن هذه الروح تملأ صفحات أدبه ويمكن لأي باحث أن يقدم دراسة واسعة للفكاهة في أدب نجيب محفوظ, وسوف يجد في هذا الموضوع مادة غنية وغزيرة.. ومن الملامح الرئيسية لنجيب محفوظ والتي لا ينبغي إغفالها في أي حديث عن شخصه ومشواره أنه محب بل عاشق للغناء والطرب, فقد كان في العشرينيات والثلاثينيات في صباه وشبابه الأول, عاشقا لصوت صالح عبد الحي, ثم بعد ذلك أصبح شديد التعلق بصوت أم كلثوم وصوت عبد الوهاب, وهذا الميل إلي الغناء والطرب والتذوق للفن الرفيع عند نجيب محفوظ, هو سبب رئيسي آخر من أسباب تكوين شخصيته الانسانية المهذبة المصقولة التي تحرص دائما علي معاملة الناس بالحسني, ومواجهة الحياة بالصبر وسعة الصدر, والنفور من الخصومات الحادة بينه وبين الآخرين, ويكفي أن نلقي نظرة علي الشخصيات المتناقضة التي تتجمع حول نجيب محفوظ وتشعر بمودته وصداقته لها جميعا ولهم ما لهم من تباعد وتنافر.. هذه الشخصيات المختلفة التي استطاع نجيب محفوظ أن يجمعها, ويصبح مركزا لها, تشهد بأنه يقيم علاقاته الانسانية علي أساس من التسامح, واحتواء الاختلاف بينه وبين الآخرين دون ضيق أو نفور أو ضجر. وإذا انتقلنا إلي جانب آخر في مشوارنجيب محفوظ في الفن والحياة, فسوف نجد فيه صفة أساسية بارزة هي الوفاء للناس والأماكن, فنجيب محفوظ من هؤلاء الفنانين العظماء الأوفياء. ووفاء نجيب محفوظ للحرافيش هو وفاء تضرب به الأمثال, فهو يحرص علي اللقاء الأسبوعي معهم. وقد يتصور البعض أن لقاء الحرافيش هو لقاء تدور فيه مناقشات فكرية دقيقة ومنظمة وخاضعة للتخطيط الذهني, وهذا غير صحيح, فلقاء الحرافيش لقاء سهل يسير, هو في جوهره جلسة أصدقاء يتبادلون الحديث الحر في شئونهم الشخصية المختلفة. ونجيب محفوظ في مشوار حياته وفنه مرتبط بمصر أشد الارتباط, وتستطيع أن تقول أن كل رواياته وقصصه بغير استثناء مرتبطة بمصر, وشعبها وتاريخها والصراعات التي تعرضت لها والحالات النفسية المختلفة التي مرت بها.
ولا نخطئ إذا قلنا إن مصر هي البطل الأول والأكبر في أدب نجيب محفوظ. فهي موجودة دائما في الخلفية الأساسية للشخصيات والموقف والأحداث والحوار الذي يدور بين الناس, وأفراحها وهمومها ومشاغلها ومصيرها ومستقبلها هي المادة الرئيسية لأعمال نجيب محفوظ الأدبية. إنه عاشق لمصر, كما لم يعشقها أحد من الأدباء قبله أو بعده.
وهو في أعماله الروائية والقصصية شاعر يتغني بها, وموسيقار يعزف ألحانها الحقيقية: حزينة كانت أو فرحانة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.