لماذا ظلت علاقتنا بسيناء مجرد سطور قليلة وسطحية في كتب التاريخ المدرسية؟!!. لماذا نحفظ عن ظهر قلب، كلمات أحمد عرابي التي صرخ بها في وجه الخديوي توفيق: 'لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا'، ونجهل كلمات بطل سيناء الشيخ سلمان الهرش التي صرخ بها في وجه 'جولدا مائير' و'موشيه ديان'، وقادة جيش الاحتلال الصهيوني؟!!. سنوات طويلة مضت تعرضنا فيها لعمليات 'غسيل مخ' وللأسف نجحت إلي حد كبير في تزييف وعي كثير من شبابنا. فالمناضل البورسعيدي 'أبوالعربي'، الذي لقن الاحتلال الإنجليزي ومن بعده الصهيوني دروسًا لن ينسوها، أصبح في مخيلة الأجيال الجديدة، مجرد 'حلنجي' أو 'فهلوي' يُضرب به المثل في الكذب!!. وأبطال سيناء الذين قاوموا الاحتلال الصهيوني، وكتبوا بدمائهم أنصع صفحات تاريخنا، أصبحوا في ذهن البعض مجرد عملاء، أو تجار سلاح ومخدرات!!. لكن رغم ما تعرضت له سيناء من إهمال وتشويه عبر السنوات الماضية، تقف اليوم كما وقفت دائما صامدة، تقاوم شذاذ الآفاق والإرهابيين والتكفيريين والمرتزقة والمجرمين.. تقف صامدة كجبالها، عفية كصخورها، رائعة كتاريخها. تقف سيناء وخلفها مصر كلها لتذود عن الوطن العربي وتواجه مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد. كان الزميل محمود بكري قد دعاني لحضور مؤتمر جماهيري بعنوان: 'لقاء 25 يناير 30 يونية.. نحو هدف مشترك من أجل مصر'.. لصياغة رؤية مشتركة تسهم في عبور المرحلة الانتقالية، ومواجهة المحاولات التي تريد أن تجعل من ثورتي 25 يناير و30 يونية نقيضين، وأن الثانية جاءت للقضاء علي مكتسبات الأولي!!. وكان من بين المشاركين الناشطة السيناوية 'سلوي علي سلمان الهرش'، التي تحدثت عن معاناة أهالي سيناء، وما تمر به هذه الأيام، وما يجري علي أرضها من مواجهات مع التنظيمات الإرهابية، وكأن قدرها أن تواجه كل محتل غاصب يسعي للنيل من مصر، وتواجه الإهمال والتهميش، ثم ها هي تخوض معركتها مع الإرهاب. كانت السيدة تتكلم بصلابة شديدة وكأنك أمام عشرة رجال. واختتمت كلماتها قائلة: سيناء هي خط الدفاع الأول عن مصر، وكما نجحت عبر تاريخها في مواجهة الغزاة والمحتلين ستنجح في مواجهة الإرهاب.. المرأة قبل الرجل.. عار علينا نحن النساء أن نعيش ورءوس رجالنا منكسة.. نموت جميعًا وتبقي رءوس رجالنا مرفوعة في السماء. بعد المؤتمر وقفت سلوي الهرش تعاتب المشاركين من الصحفيين والسياسيين والشخصيات العامة وتقول: أنتم بعيدون عن سيناء، لقد قطعت عشرات الأميال أنا وأسرتي، ورغم صعوبة الطريق وخطورته، حضرنا لنشارك في المؤتمر، نحن منكم لكننا بالنسبة لكم مجرد أخبار عن عمليات تقوم بها القوات المسلحة لمواجهة الإرهاب. ثم سألتنا: هل تعرفون مثلا أن الاحتفال ب'مؤتمر الحسنة' متوقف منذ سنوات طويلة؟!!.. وهل تعرفون أصلا 'مؤتمر الحسنة'؟!.. لقد أعجبكم كلامي، فهل تعرفون أنا حفيدة من؟!.. أشعر بحزن شديد عندما أجد من يعرفني ويعجبه ما أقول، ولا يعرف شيئا عن جدي سلمان الهرش، ودوره في مقاومة الاحتلال الصهيوني، والصفعة التي وجهها إلي قادته. وقبل أن تغادر.. قالت: أتمني أن نلتقي المرة المقبلة في سيناء. كانت كلمات حفيدة بطل مصر الكبير رقيقة، لكنها قاسية.. نحن بالفعل مقصرون، بعيدون تمامًا عن جزء غال وعزيز من أرضنا.. أرضنا التي رواها أهلنا من أقصي مصر إلي أقصاها بدمائهم حتي عادت.. وعندما عادت غابت. كانت كلمات سلوي الهرش قاسية، لكنها محقة.. ولها ولأهالي سيناء العتبي حتي يرضوا. وانطلاقًا من الحكمة القائلة: 'ابدأ بنفسك أولا'، وجدت من واجبي أن أكتب عن هذه الصفحة المشرقة من تاريخ مصر أو 'مؤتمر الحسنة'، وأطالب كل صاحب قرار أن يعيد الاحتفال به كل عام كما كان، واعتباره مكملا لاحتفالات أكتوبر، بل تدريس هذه الواقعة التاريخية لأبنائنا في المدارس. ولا أبالغ إن قلت: 'إهمال سيناء بعد ذلك خيانة'، خاصة أن الأيام قد كشفت طبيعة المخطط الأمريكي الصهيوني الجديد/ القديم لاقتطاعها وفصلها عن مصر. مؤتمر 'الحسنة' فما أشبه الليلة بالبارحة.. في أكتوبر1968 استدعت قوات الاحتلال الصهيوني شيوخ وعواقل قبائل سيناء، وساومتهم علي إعلان الانفصال عن مصر، واستخدمت معهم الضغوط والتهديدات تارة والعروض والمغريات تارة أخري. وحدد الكيان الصهيوني يوم 31 أكتوبر لعقد مؤتمر دولي يعلن فيه عواقل القبائل الانفصال.. واختاروا 'الحسنة' بوسط سيناء لهذا الحدث الكبير.. ووعدوا الشيخ سالم الهرش كبير قبيلة البياضية، وصاحب الشعبية الكبيرة بين القبائل بتولي إمارة سيناء في حال إعلان انفصالها عن مصر والمطالبة بالتدخل الدولي.. وهددوه في حال رفضه بقتل أسرته بالكامل والتنكيل به. كان لدي الشيخ سالم الهرش 10 من الأولاد و8 من البنات، و4 زوجات.. جمعهم وصلي بهم صلاة مودع، ثم سلمهم إلي المخابرات المصرية التي هرَّبتهم إلي مدن القناة ومنها إلي مديرية التحرير. وفي اليوم الموعود وجهت دولة الكيان الصهيوني الدعوة لوكالات الأنباء العالمية ومراسلي التليفزيونات الغربية والصحف من كل أنحاء العالم لحضور مؤتمر صحفي يعلن فيه موشيه ديان وزير دفاع العدو الإسرائيلي عن مفاجأة مدوية.. فقد سايرهم الشيخ سالم الهرش ووعدهم بتنفيذ مطالبهم، بعد أن رتب الأمر مع المخابرات الحربية المصرية، وجري الاتفاق علي تدبير فضيحة إعلامية دولية لإسرائيل. توافد كبار القادة في جيش الاحتلال الصهيوني علي 'الحسنة' يرافقهم الصحفيون والإعلاميون من أجل اللحظة الحاسمة التي راحت تروج لها إسرائيل وتؤكد أنها ستغير خريطة الشرق الأوسط إلي الأبد، وستخلق واقعًا جديدًا في المنطقة. وفي الوقت الذي كانت تتحرك فيه المخابرات المصرية لقلب السحر علي الساحر، كانت الطائرات الصهيونية تنقل الطعام ومصوري وكالات الأنباء ومندوبي القنوات العالمية لحضور المؤتمر الذي حشدت له إسرائيل ويشارك فيه كبار قادتها وعلي رأسهم 'جولدا مائير' و'موشيه ديان'. وأخيرا بدأ المؤتمر وسط اهتمام إعلامي، وترقب للمفاجأة التي طنطنت بها إسرائيل طويلا، فتحدث شيوخ وعواقل القبائل عن سيناء وأهميتها وكنوزها وخيراتها، ثم فوضوا الشيخ سالم الهرش للتحدث باسمهم. وقف الرجل شامخًا شموخ الدهر.. ساد الصمت وانتظر الحضور كلمة شيخ مشايخ سيناء.. انتظر الصهاينة أن يعلن الشيخ سالم الهرش عن رغبة أهالي سيناء في الانفصال عن مصر وتدويل قضيته. وقف سالم الهرش يلقن العدو درسًا لن ينساه مخاطبًا قادة جيش الاحتلال الصهيوني: 'أشكركم علي عقد هذا المؤتمر، ثم تلا بعض آيات القرآن الكريم التي ذكرت سيناء، وقال: أما أرواحنا فهي لله، وإن باطن الأرض أولي بنا من ظاهرها لو قلنا إن سيناء غير مصرية.. سيناء أرض مصرية وستبقي مصرية ولن نرضي بديلا عن مصر، نحن مصريون ولن نقبل أن نكون غير مصريين.. وما أنتم إلا قوة احتلال ولابد لهذا الاحتلال أن ينتهي.. نرفض التدويل، وأمر سيناء سيظل في يد مصر.. سيناء مصرية مائة بالمائة ولا نملك فيها شبرًا واحدًا يمكننا التفريط فيه.. من يرد الحديث عن سيناء يتكلم مع زعيم مصر جمال عبد الناصر، سيناء بنت عبد الناصر.. سيناء بنت عبد الناصر'. فضجت القاعة بالهتاف: الله أكبر. حاول الحاكم العسكري الصهيوني في سيناء أن ينقذ الموقف فأمسك بالميكروفون وقال: 'غير الموافق علي رأي الشيخ سالم يرفع يده'، فعلت القاعة بالهتاف باسم مصر وترديد الله أكبر.. الله أكبر.. حتي انفضَّ المؤتمر وفشل المخطط الصهيوني، لتنتصر سيناء لمصر والعرب. انتصرت سيناء وستنتصر كما فعلتها من قبل وهزمت، الهمج والهكسوس والتتار والمغول وجيوش أوربا الاستعمارية، لتبقي كعادتها خط الدفاع الأول عن مصر والدرة الغالية في جبين الوطن.