لم أتصور أن تحدث دوي صرخة واحدة وهتاف واحد (الشعب يريد...) ثورة ومليون ثائر ثم 08 مليونا وأنا واحد من هؤلاء، أعود من ميدان التحرير لمرسمي وذراعي الذي يتوج وسط مليون ذراع أصرخ معهم من جديد، وفي مرسمي جمعت رسوم دفتر استكشاتي رقم واحد بعد الألف وقد تحول ذراعي المتموج مع الصرخة الأولي والصرخات المتتالية الي فرشاه وتحولت أصابعي الخمسة الي ألوان ساخنة من الاصفر والبرتقالي والاحمر، ألوان ألسنة اللهب المشتعل حولي وبداخلي فتحولت لوحاتي بصرختها الي هذا المعرض، بعد نجاح الثورة، اتجهت الي ميدان التحرير الي ميدان الاوبرا بوسط البلد لأتأمل من جديد حصان ابراهيم باشا وهو يشير بأصبعه نحو البحر المتوسط وقلت: هذا هو (المسار) الحقيقي لثورة 52 يناير، توقيع جورج البهجوري 1102 بهذه الكلمات البليغة الثائرة التي دونها الفنان بروحه والتي تصدرت كتالوج معرضه المقام بقاعة المسار بالزمالك والتي اعتادت طباعة مطبوعاتها باللغة الانجليزية ماعدا كلمة الفنان باللغة العربية؟! بالرغم من ذلك وعدني مدير القاعة منذ سنوات انه سيعمل علي الجمع بين اللغتين العربية والانجليزية، كشفت كلمات البهجوري عن وطنيته الكامنة والتي تدفقت كالبركان وبمعني آخر انطلاقة ثورة البهجوري من أعماقه حاملة طاقة وتراكمات عقود متصلة وهو يعيش بوجدانه بل ينصهر مع الفقراء والكادحين واطفال الشوارع والاسواق وعمال المصانع والخبازين وغيرهم.. تراكمت بداخله كل القضايا الاجتماعية ومعاناة الناس وآلامهم وفرحتهم، اكثر من ستين عاما تجمعت أنفاس شخوصه وتوحدت آلاف الايادي المحدودة وانطلقت من علي أسطح لوحاته لتشارك الملايين بميدان التحرير وميادين مصر في كل مكان، هل ملايين العيون الواسعة والأيادي المحدودة في اعمهال البهجوري وكم الطاقة الشعورية والتعبيرية في أعماله كانت مبشرة بالثورة؟ اقول نعم.. فإنها جزء مهم من ذلك لانه الفنان الذي استطاع ببلاغة واقتدار ان يعيش وطنه بجيناته ونبضه، وعلي مدي رحلته الممتدة كان ثائرا مبتسما علي درجة عالية الحساسية.. والتواضع في نفس الوقت، علي مدي سنوات اقتربت من الصديق في باريس، القاهرة والمغرب، فنان ورسام متمكن من افكاره وأدواته ولا يستطيع التحكم في مشاعره وعاطفته التي تنهمر علي اسطح لوحاته ليملأ فضاءها بنبض الناس، يتحدث ويبتسم ويتحرك كأنه احد شخوص أعماله الفنية، فنان يتأمل ويتعمق وينقب ويستدعي من الواقع المشهد الافتراضي الجمالي وبتلقائية مفرطة وبأحكام كامل للعقل، استطاع البهجوري ان يظل علي قمة التعبيرية المصرية المعاصرة، وتمكن من تحقيق المعادلة الصعبة وهي الخصوصية والرؤية المتفردة مع الاحتفاظ بهويته المصرية بالرغم من اقامته الطويلة في باريس.. تأثر بالثقافة الفرنسية والتي امتزجت بثقافة النشأة والتي ظلت تطفو علي تراكم افكاره، والبهجوري نموذج مثالي للفنان المبدع الذي وهب حياته للابداع الفني، ومساحة المقال لا تساعدني علي اعطاء الفنان جزءا من حقه، فهو يستحق مؤلفات لتوثيق مسيرته كقدوة للاجيال، وسألتقي مع أم كلثوم يفيض منها صدي صوت كوكب الشرق في مقالات أخري ان شاء الله، البهجوري علامة مضيئة في تاريخ الحركة الفنية المصرية.