في المساء جاء لزيارتي وقال: مساء الخير يا فندم! وتبعني إلي حجرة المكتب.. لم يجلس في ركن الكنبة.. إلا بعد أن جلست أنا.. في المقعد الكبير وقلت: يا أهلاً.. وسهلاً.. وهو ربت بيده علي صدره وعدل من وضع نظارته وابتسم! كان يسكن في البناية المواجهة.. ونعرف بعضا من سنوات طويلة.. إلا أننا لم نتزاور من قبل.. ولم أستطع أن أخمن السبب الذي دعاه لزيارتي.. ولكنني لاحظت أنه أصغر سناً عما قدرت وأنا أراه أثناء تبادل التحايا عبر الطريق.. وفي سبيلي لمغادرة الحجرة سألته: شاي ولا قهوة.. ولا تاخد حاجة ساقعة وبعدين نشرب القهوة؟! قال: مفيش لزوم والله. قلت: لا.. ضروري.. قال: خلاص يبقي شاي من غير سكر. عندما عدت رأيته يعيد طي الجريدة.. ويضعها إلي جواره علي الكنبة.. وما أن عدت للجلوس حتي اعتدل ناحيتي، قال: حضرتك قريت الجرايد امبارح؟.. نظرت إليه وقلت: حوالين إيه.. يا تري؟ قال: شفت الخبر اللي مكتوب فيه ان الناس اللي بتشتغل في جنينة الحيوانات بتاكل الحمير المخططة.. والتعالب.. وبتاكل من الوحوش والطيور اللي في الجنينة؟!.. أخبرته انني قرأت شيئاً مثل هذا.. قال: لا.. ده منشور فعلاً في الصفحة الأولي.. وفي أكثر من مكان! والحقيقة أنني بعدما كنت أخذت الخبر في سياق ما نقرأ ونسمع من أخبار هذه الأيام.. انتبهت الآن إلي أنه خبر غريب فعلاً.. ثم انه عاد وسألني: وحضرتك رأيك إيه في الكلام ده؟ قلت: إنه كلام غريب فعلاً! قال: طب وبعدين؟! جاءت البنت بصينية الشاي ووضعتها بيننا علي المنضدة المستديرة وانصرفت.. وكان هو مازال يتطلع إليّ منتظراً أن أرد. أخبرته بأن هذا علي العموم ليس شيئاً جديداً.. فقد تم الإمساك ببعض الجزارين الذين يبيعون لحم الحمير والكلاب النافقة.. وأن الصحف نشرت صور هؤلاء الجزارين وهم يجلسون وأمامهم هذه الحمير وهذه الكلاب وهي نافقة!.. هز رأسه نافياً.. وقال: لو سمحت لي.. هذا شيء مختلف.. لأن الناس عندما أكلت من لحم الحمير والكلاب أكلتها وهي تظن أنها تأكل لحم البقر.. لكننا هنا أمام وضع مختلف.. الناس بدأت الآن تأكل الحيوانات وهي تعلم أنها تخص جنينة الحيوانات وأنها متوحشة.. ثم طلب مني أن ألاحظ أيضاً أننا ممكن نذبح حماراً من الحمير العادية.. لكن ذبح الحيوان المتوحش شيء صعب جداً.. ثم قال: وبعدين ما تآخذنيش.. هي الجنينة حتكفي مين.. ولا مين.. ولا.. مين؟ وأطرق قليلاً وقال: تفتكر ياكلوا إيه بعد كده؟! .. وخيّل إليّ أنه خائف.. وانتبهت فجأة إلي وجهه المدور الناعم وجسده الطري الذي يملأ ركن الكنبة.. ويبدو أنه لاحظ نظرتي فاتسعت عيناه وتصلب فجأة كمن يتحفز للقيام.. وأنا حين رأيته علي هذه الحال لم أعرف إن كان يخاف أم كان يتأمل.. فابتسمت في وجهه.. وشربنا الشاي.. وعندما انصرف تابعته من الشرفة ورأيته يتلفت حوله في الليل.. وهو يعبر الطريق.. مسرعاً!.. هذه القصة القصيرة التي نشرها الأديب الراحل ابراهيم أصلان في 4 يونيو 8002 بعنوان »عبر الطريق مسرعاً«. وأعاد نشرها في مجموعة قصصه القصيرة »حجرتان وصالة« بعد إعادة صياغتها بعنوان جديد هو »استشارة منزلية«.. هي النموذج لما أردت الكتابة عنه في هذه السطور.. بمناسبة وفاة الأديب العظيم ابراهيم أصلان.. وأعني به النموذج لكتابة التاريخ من خلال الأعمال الأدبية التي تتناول الأحداث الصغيرة.. كنت قد كتبت مقالاً في صحيفة »العرب« الناصرية في يونيو 8002 تناولت فيه هذه القصة القصيرة بعد أيام من نشرها بصحيفة »الأهرام« في الرابع من يونيو 8002.. وكانت المناسبة هي اقتحام أحد الجزارين المحترفين لأسوار حديقة الحيوان.. وذبح الجمل المغربي الأصل.. ليلاً.. وهو من الحيوانات النادرة المعرضة للانقراض.. ثم قفز مرة أخري من فوق سور الحديقة.. حاملاً »الجمل بما حمل«.. واستقل تاكسي.. عند الفجر.. عائداً لمتجره.. دون أن يراه أحد من عسس الدولة البوليسية»!!«.. تساءلت يومها: هل يمكن أن نشهد اليوم الذي ينفد فيه رصيد حديقة الحيوان من اللحوم.. وأن يبدأ السحب فيه علي المكشوف من لحوم البشر؟.. اليوم.. أكتب عن أعمال الأديب الراحل.. من زاوية أخري.. وهي هل يمكن كتابة تاريخ حقبة حسني مبارك من خلال الإنتاج القصصي لهذا الفنان المبدع؟ والسؤال له مبرره لسبب بسيط.. هو أن أصلان لم يتناول في أعماله القضايا الكبري.. وانشغل بالقضايا الصغيرة جداً.. الكاشفة جداً.. البليغة جداً.. وهو ما يوصف بالقضايا »الميكرو«. والقضايا »الميكرو«.. هي القضايا الإنسانية.. البسيطة.. المتناهية البساطة.. وهي علاقة الإنسان بنفسه وبأسرته.. وبالمجتمع الذي تعيش فيه الغالبية العظمي من المواطنين العاديين.. أولاد البلد. كان ابراهيم أصلان.. يمتلك قرون الاستشعار الخاصة التي مكنته من الوصول لأدق التفاصيل التي تناولها في إبداعه القصصي.. وجعلت هذا الإبداع مرجعاً لكتابة تاريخ حقبة حسني مبارك.. وهو ما أود الإشارة إليه في هذه السطور. كان ابراهيم أصلان.. هو الكاتب عن البسطاء.. الذين لم يكن صفوت الشريف يكف يوماً واحداً عن التذكير بأن حسني مبارك يضعهم في قلبه.. وعقله»!!«.. سيكتب التاريخ يوماً أن اللصوص سرقوا حيوانات حديقة الحيوان وذبحوها.. وباعوها.. وأكلوها.. في أيامه!.. وسيكتب التاريخ أن أصلان قضي سنوات طويلة من عمره في منطقة الكيت كات بإمبابة.. وأن الفريق أحمد شفيق وزير الطيران حصل من حسني مبارك علي 4.1 مليار جنيه مقابل تنازله عن أرض مطار امبابة.. قبل أن تبيعها الحكومة للمستثمرين.. وقبل أن تتحول أرض مطار امبابة إلي كيت كات.. أخري.. ويظهر بها أصلان.. تاني!.. وسيكتب التاريخ أنه في الوقت الذي تدهورت فيه أحوال قطارات السكك الحديدية ومزلقاناتها.. ولقي الآلاف حتفهم بداخلها.. أنه تم بناء وهدم جراج محطة القطارات في رمسيس أكثر من مرة.. وفقاً لما جاء في أعمال الراحل ابراهيم أصلان.. أريد أن أقول إن أعمال أصلان لم تتناول القضايا الكبيرة.. وكان ذلك سر قوتها وخصوصيتها وانتشارها.. ولذلك فإن هذه الأعمال ستظل مرجعاً لكتابة تاريخنا المعاصر.. لسبب بسيط هو أنها تناولت الأحداث الصغيرة.. التي لم تهز المجتمع من فوق.. وإنما هزته من تحت.. وكان ذلك سر عظمتها واستمتاع الناس بها. تعالوا نعيد رؤية حقبة حسني مبارك.. التي استمرت 03 سنة، بعيون.. أصلان.. وسوف تقول لنا الكثير!