تكملة لسلسلة تقويم سلوكياتنا المهنية التي تناولتها علي مدار الأسابيع السابقة والتي في تقديري من الموضوعات الأكثر أهمية في الوقت الحالي، أختص بمقالي هذا لموضوع شائع جدا في مجتمعنا وهو "إعلاء المصالح الشخصية فوق المصلحة العامة" في ظل انحدار الأخلاق والقيم المجتمعية حيث أثبتت أغلب الدراسات الاكاديمية وجود علاقة بين إصلاح المؤسسات وزيادة إنتاجيتهم وبين اخلاقيات وقيم عمل الأفراد بهذه المؤسسات وبين تفشي الفساد فيها، فلقد كشف تقرير الشفافية الدولية عن مصر لعام 2010 أن مصر تحتل المركز 111 فيما يتعلق بالشفافية من بين 180 دولة، وأن ترتيبها بين دول العالم في معدلات الفساد العالمي رقم 98 وتتساوي في الترتيب مع كل من بوركينا فاسو والمكسيك. فكثيرا ما كنا نسمع دائما من بعض المسئولين بأجهزة الدولة في إتخاذهم لقرارات أو تحايلهم علي القوانين لتسهيل أمور البعض من أصحاب الأعمال لصالح كسب شخصي لهم أو لكسب متبادل معهم وغيرها من الأمور المعروفة لدينا، ولكن السواد الأعظم أن هذه السلوكيات لم تقتصر علي مؤسسات الدولة بالقطاع العام فقط تحت غياب الرقابة الخارجية عليها من المجتمع ونظم المحاسبة والمساءلة والشفافية، إلا أن هذه السلوكيات انتشرت مثل الفيروس الذي أصاب المجتمع مثل العدوي سريعة الانتشار بين المؤسسات الخاصة والكبري منها في مصر، فبالرغم من أن تلك المؤسسات لها من النظم الداخلية الخاصة بها التي تحكمها إلا أنها تشبعت ببعض صفات المجتمعات الرأسمالية الكبري في تطبيقها بأسلوب خاطيء لفكر نظرية شارلز داروين في "البقاء للأصلاح" فسادت لديهم الانانية المطلقة والاستحواز الأكبر بالربح بتلك المؤسسات العملاقة علي حساب المؤسسات الصغيرة وزيادة ثراء فئة الأغنياء علي حساب فئة الفقراء والتي كانت سببا في نشوب الثورات في الوقت الحالي بمثل هذه الدول في المجتمعات الغربية بسبب سوء الأحوال المعيشية وغياب التكافل الاجتماعي، وبالتالي يكون من الطبيعي في ضوء بيئة عمل هذه المؤسسات الكبري أن ينتشر مبدأ إعلاء المصالح الشخصية علي المصالح العامة بتلك المؤسسات، فتجد بدلا من أن كان معيار الكفاءة في الإختيار للوظائف والتقلد للوظائف العليا أو الترقي أو أي من الامتيازات الأخري هو المعيار الأساسي لذلك، أصبح معيار الإستفادة الشخصية هو الأساس ومعيار تجارة تبادل المصالح بين الأشخاص الأكثر شيوعا، (فلا يأتي بفلان لأنه كفء لكن يأتي بفلان لمصلحة ما أو لرد جميل ما لأحد)، فأصبحت تلك المؤسسات تتعامل بنظام متقن مزيف ومغلف بالاحترافية المطلقة، بحيث يصعب علي المحيطين بها أو المراقبين عليها إختراق ما يحدث بداخلها لأنها تتم بغاية من السرية المطلقة من أصحاب المصالح أو المستفيدين بالتناوب بالرغم من إذعانها المباديء والاخلاقيات السامية من الديمقراطية والشفافية والعدالة الاجتماعية ولكن في بواطن الأمور ليس لهم أي علاقة فيما يزعمونه، فأصبحنا نعاني من زيف أصحاب المصالح الشخصية وتصفيق الآخرين لهم لدرجة تصل بنا إلي الاعياء، فكيف إذن نتحدث عن أي تطوير أو إصلاح في ظل ديناميات لنظم بلا أخلاقيات وقيم؟ وكيف نتحدث عن مقاومة الفساد في جميع مؤسساتنا في ظل وجود تكتلات خفية تدير الفساد بألوانه المختلفة والتزوير من داخل هذه المؤسسات بسرية وإحترافية مطلقة لمصالحهم الشخصية ؟ الأمر الذي يستدعي الصحوة المجتمعية لزلزلة كيان المجتمع المصري وتكثيف الجهود عشرات المرات لإعادة بناء منظومة القيم والاخلاقيات فيما يسمونه المثقفون في مصر بمثلث البناء المتمثل في التعليم والثقافة والإعلام حتي لو تطلب ذلك سنوات وسنوات. ولقد أقر عالم الاقتصاد مايكل تودارو في تقريره للبنك الدولي عام 1994 بأن الشعوب التي لا تستطيع أن ترتقي بالتعليم لديها وتنمي مهارات رأس المال البشري لديها لا تستطيع أن تنمو أو ترتقي. 1- فلا بد من زيادة ميزانية الدولة علي التعليم الأساسي والاهتمام الأكبر بالقيم والسلوكيات المجتمعية في مؤسساتنا التعليمية وعدم إغفالها كعنصر من عناصر نجاح الطلاب 2- وإرساء هذه المباديء من خلال دور أكثر وعيا للاعلام بإبراز النماذج الناجحة في المجتمع، 3- هذا بالإضافة إلي إحياء دور الثقافة الغائبة في تقويم سلوكيات المجتمع من خلال الأنشطة الجذابة للشباب لتعريفهم بالنماذج المجتمعية العظيمة التي أثرت في تاريخنا ودعوة رجال الدين ليس فقط في الجوامع والكنائس بل في ملتقيات الشباب والمدارس والجامعات لتقوية الايمانيات لديهم 4- كل هذا في المقام الأول في ظل وجود رقابة قوية خارجية من منظمات المجتمع المدني علي جميع مؤسساتنا العامة منها أو الخاصة لتعزير مبدأ الشفافية والمحاسبة والتعامل مع الشكوي المقدمة من العاملين بها بحيادية حتي يمكن تدريجيا اختراق هذه التكتلات الخفية ذات المصالح الشخصية وتنظيف مؤسساتنا منهم. وفي نهاية مقالي، لقد فهمت أخيرا وبعد سنوات طويلة مقولة توفيق الحكيم الذي كان والدي رحمه الله يرددها لي بأن "المصلحة الشخصية هي دائما الصخرة التي تتحطم عليها أقوي المبادئ"، "وأن لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم". وللحديث بقية في موضوع السلوكيات.