العمل في القسم القضائي متعة ما بعدها متعة رغم مشقته ومتعة متابعة القضايا منذ الكشف عنها حتي الفصل فيها أنها تغير حكمك علي موضوع القضية أكثر من مرة ويتبدل حكمك عليها من الاعدام الي السجن.. ثم الحبس وحتي البراءة.. ولا غرابة في ذلك. وقد علمتني الفترة الطويلة التي قضيتها في قسم القضايا تحت رئاسة الاستاذ المرحوم محمد زعزع الكثير والكثير لعل أهمها ألا اتعجل الحكم.. وقد عاصرت قضايا هزت الرأي العام في وقتها منها مثلا قضية رشوة وزارة الصناعة.. وقضية العمولات الكبري.. وقضية هيئة الاوقاف وغيرها من القضايا.. وكنت عندما استمع الي مرافعة ممثلي النيابة وصوتهم المجلجل في القاعة وهم يطالبون بأقصي عقوبة علي المتهمين.. ويعرضون الاسانيد التي تنطق بها الأوراق.. ويستعرضون مواد قانون العقوبات التي استندوا اليها في مرافعاتهم أجزم بأن الحكم سيكون الاعدام او المؤبد أو لو استخدمت المحكمة حقها في تقدير الظروف المخفف فإن السجن المشدد هو المصير المحتوم. وكان استاذي محمد زعزع ينظر لي برفق وهو يقول بنبرة حانية يابني لا تستعجل الامور وانتظر مرافعة الدفاع ربما يتغير حكمك.. وفعلا تأتي مرافعات الدفاع التي تفند كل الاسانيد وتشكك في شهادات شهود الاثبات.. وتأتي بشهود نفي.. ويقدم الدفاع مذكراته ومستنداته للمحكمة ويأتي الحكم في النهاية صادما لشاب مثلي في مقتبل عمره الصحفي. يأتي الحكم بالبراءة وفي كل مرة لأسباب مختلفة عن الأخري.. ثم تأتي مراحل الاستئناف والنقض ويقول القضاء كلمته في النهاية إما بالادانة أو البراءة. وهذه الدروس أحب ان أنقلها لمن يتابعون القضايا المعروضة علي المحاكم في هذه الفترة حتي لا يتعجلوا اصرار احكام متسرعة والقضية مازالت في مراحلها الاولي.. بل يتريثون لأن الرأي العام يتمسك بما تقوله النيابة العامة في بدايات المحاكمة ويصدر احكاما علي المتهمين احكاما شعبية أو جماهيرية حتي اذا حكم القضاء في النهاية بالبراءة يكون الحكم صادما للرأي العام.. والقضاة في محرابهم المقدس لا ينظرون إلا إلي المستندات والاوراق التي بين أيديهم. لا يهمهم احكام وسائل الاعلام التي يطلقونها علي المتهمين.. ولا يعنيهم ما يدور من نقاشات في ندوات خارج حدود محراب العدالة.. وانما ما يتيقين ويرسخ في ضمير القاضي يصدر علي أساسه حكمه العادل علي المتهم سواء كان بالاعدام أو السجن او الحبس أو البراءة وهو مرتاح الضمير.. وفي درجات التقاضي المتعاقبة أكبر ضمانة لتحقيق العدل. وفي القضايا المنظورة الآن أمام القضاء يثور لغط كثير من كل وسائل الاعلام رغم أن الاصل ان القضية ما دامت امام القضاء فلايجوز تناولها في وسائل الاعلام بالتحليل أو العرض التفصيلي وانما يكتفي بقرارات الهيئة الموقرة حتي يصدر الحكم النهائي.. ولهذا فأن الهدوء في تناول هذه القضايا يساعد علي قرار العدل بين الجميع.