الشحن الكروي.. كان سياسة انتهجها حسني مبارك اثناء توليه السلطة.. وحتي بعد تخليه عنها. كرة القدم.. كانت من الادوات السياسية التي استخدمها النظام البائد للتباهي بالانجازات والانتصارات.. وان حسني مبارك هو قائد الجيوش.. وبطل المعامع.. وكانت سعادة ملايين المواطنين بالحصول علي كأس الامم الافريقية للمرة السابعة تفوق سعادتهم بالحصول علي انبوبة بوتاجاز. النظام السياسي.. ادخل في روح المواطنين ان الانتصارات الكروية تعني اننا نسير في الطريق الصحيح.. وان الانتصارات الكروية اهم كثيرا من المفاعلات النووية وتعمير سيناء وانتهاج سياسة للاكتفاء الذاتي من الغذاء أو التعاون مع دول منابع النيل الخ. كل ذلك لا يهم. المهم هو التركيز علي كرة القدم.. لان المواطن يري الاهداف الكروية التي تتحقق فوق سطح الارض وليس في باطنها. اصبحت كرة القدم في ظل حسني مبارك هي المخدرات التي يقدمها النظام السياسي للشعب كي ينسي همومه ومتاعبه.. وينسي عمليات السلب والنهب والفساد التي تجري في دهاليز السلطة والفسوق. وشهدت حقبة حسني مبارك طفرة غير مسبوقة في اعداد المجلات الرياضية.. التي كانت تتصدرها في كل الاحوال الانباء والموضوعات التي تستهدف صرف الانظار عن الواقع الذي تعيشه الامة.. كانت كرة القدم لعبة رئاسية.. وعندما عاد فريقنا القومي من انجولا في العام الماضي حاملا كأس الامم الافريقية.. كان في استقباله بالمطار »الرئيس« حسني مبارك ورئيسا مجلسي الشعب والشوري سرور وصفوت ورئيس مجلس الوزراء نظيف.. ووزير الداخلية العادلي والسيدان علاء وجمال مبارك ونقل تليفزيون الفقي مراسم الاستقبال علي الهواء ومعهما اغنية لطيفة: مهما رحنا.. ومهما جينا.. مصر روحنا ونور عينينا.. هي ام الدنيا.. مصر.. مصر.. مصر. وسمعنا المذيع يقول: ما احلاها ليلة.. وما اجملها فرحة.. وما اعظمها لحظة الانتصار. لقد تفوق ابناء مصر علي انفسهم.. وزفوا لمصرنا الغالية الكأس الافريقية في انجاز لم يسبقهم اليه احد من منتخبات القارة السمراء.. وانتزعوا هذه البطولة من انياب الاسود والنمور والافيال وثعالب افريقيا! وفي اليوم التالي وصفت الصحف اللاعب »جدو« بانه اخطر رجل في افريقيا »!!« ووصفت حسن شحاتة.. بانه معلم الفرح! ووصفت المنتخب بكتيبة الابطال!! وقام تليفزيون الفقي.. بمهامه علي الوجه الاكمل.. ولم تنم مصر من فرط الفرحة.. وتراجعت المشاكل والازمات.. وحرصت بطانة الرئيس علي عدم ازعاجه بالمشاكل التي قد تخرجه من حالة »الروقان« والتفاخر بما جري للكرة بين اقدام »جدو«. وسعد الشعب المصري بسعادة الرئيس.. وانجال الرئيس.. واسرة الرئيس.. وسهر اكثر من 61 مليون مواطن يعيشون في العشوائيات يرقصون ويهللون وهم يتابعون الاناشيد الوطنية.. وصور ابطال الكرة.. ولم يعد الواحد منهم يفرق بين اللاعب جدو. والرئيس جدو.. بطل الضربة الجوية. الفرحة تدخل قلوبنا علي اقدام لاعبي كرة القدم لانها فرحة.. لا يحكمها سوي منطق الاطفال.. وكانت عودة الفريق الكروي بالكأس اشبه بعودة الام لأطفالها ومعها »لعب وحاجات«! اطفال في الملاعب.. واطفال في المنصة واطفال في القصر الجمهوري.. واطفال في المدرجات يهتفون ويرقصون كلما احرز »جدو« هدفا في فرحة طفولية.. لا يحكمها اي منطق. كانت سياسة مبارك تتلخص في جملة واحدة هي: »خليهم يتسلوا« واستمرت سياسة التخدير الكروي وتحويل كرة القدم إلي اداة سياسية يستخدمها الحزب الوطني السرمدي.. كلما اراد احداث »هيصة« غوغائية.. لسنوات طويلة.. واستخدمها الحزب الوطني في العديد من المناسبات طوال سنوات حكمه. والمثير في الموضوع.. ان الحزب الوطني استطاع ان يشكل من خلال جمهور كرة القدم جيشه الخاص به من الفتوات والبلطجية الذين يسهل عليه تحريكهم من خارج المؤسسات الشرعية.. بحيث تبدو وكأنها تصرفات شعبية نابعة من ارادات الامة. هم ليسوا بالطبع من جماهير الشرفاء الذين يتابعون مباريات كرة القدم في الملاعب.. ويقدمون صورا مشرفة للروح الرياضية والتنافس الشريف.. وانما هم من عصابات النظام السياسي الغاشم الذين يجري استخدامهم لارتكاب الاعمال التي تقوم بها عادة جيوش المرتزقة في الدويلات التي تحكمها العصابات. هي عصابات النظام السياسي البائد التي اصبحت جزءا من ميلشياته. وقد استخدم النظام البائد هذه الميلشيات اكثر من مرة خلال السنوات الاخيرة.. سواء في الانتخابات البرلمانية.. أو في المباريات الرياضية مع دول بعينها وفي مقدمتها تونس والجزائر.. أو في الهجوم الذي شنته هذه العصابات علي شباب ثورة 52 يناير المجيدة بميدان التحرير.. واستخدمت فيها الجمال والبغال والخيول.. كما جري في الاحداث التي شهدها استاد القاهرة اثناء مباراة فريق الزمالك مع الفريق التونسي الشقيق.. علاوة بالطبع علي الفوضي التي شهدتها العديد من المصالح الحكومية بعد الاطاحة بالنظام البائد..والاعتصامات وتهديد وترويع المواطنين. واذا تأملنا تحركات هذه الميلشيات في الهجوم علي شباب الثورة بميدان التحرير.. نجد انها صورة بالكربون لما شهدناه عبر شاشات التليفزيون عند اقتحام الملعب الرئيسي في استاد القاهرة.. والاعتداء علي لاعبي الفريق الشقيق.. بل وتدمير المدرجات والمقاعد.. واماكن جلوس الفرق الاحتياطية. ولم تكن المشاهد وحدها هي التي تكشف مركزية التخطيط والتدبير.. وانما كانت فيما تردد عن اقتحام اكثر من الف بلطجي لمدرجات الاستاد صباح يوم المباراة.. يحملون الهراوات والسنج والمطاوي.. وان سلطات الاستاد قد ابلغت عن الواقعة في محضر رسمي.. ولم يتحرك احد. وهنا يثور السؤال.. هل تجمع هذا العدد الكبير من العملاء والبلطجية لارض الاستاد بالصدفة.. ام انه جاء بناء علي عقلية دبرت وخططت ومولت؟ هذا هو السؤال.. يضاف إلي ذلك ان ما رأيناه في استاد القاهرة اثناء الثورة المجيدة من سلوكيات رائعة ادهشت العالم وبهرته.. يتنافي تماما مع السلوكيات التي تابعناها في الاعتداء علي اللاعبين باستاد القاهرة.. فهؤلاء الذين اقتحموا الاستاد ليسوا منا.. ولا يمكن ان يعبروا عن القطاع العريض من شبابنا. انهم مجموعة من المرتزقة.. افرزتهم ثقافة الشحن الكروي التي عزلت هذه الامة عن حقيقة مشاكلها ومعاناتها. الشحن الكروي هو الذي ادخل في روع قطاع كبير من العملاء والبلطجية.. بان الانتصارات لا تتحقق إلا بالاقدام وباللعبة الخشنة وكعبلة الخصوم واصابتهم بالعاهات المستديمة. انهم البلطجية الذين لا يتقنون عملا ولا يشغل الواحد منهم في الحياة سوي الاسترخاء في البيوت وهو يردد: ماما زمانها جاية.. جايبة لعب وحاجات!