لم يكن ذنب عبدالناصر انه لم يستطع - بعد رحيله - أن يمنع الانقلاب علي كل ذلك ، ولا أن يوقف التراجع في كل شيء.. ليقع مصير البلاد في يد السماسرة والوكلاء مازلت أتذكر هذا اليوم الرائع. مطار القاهرة القديم - علي تواضعه في هذا الوقت- يبدو كأنه في عرس. الميكروفونات تصدح بصوت عبدالحليم وهو ينشد »بالأحضان يا بلادنا يا حلوة». الطائرات تهبط وفيها الأمل في أبهي صوره.. أبناء مصر الذين يدرسون في أرقي جامعات العالم يعودون للوطن للمشاركة في مؤتمر يشركهم في قضايا الحاضر والمستقبل. سيكون جمال عبدالناصر معهم يستمع إليهم ويستمعون له. وسيكون الحوار منفتحا علي كل الآراء. وسيكون الأمل بوسع أحلام جيل جديد قادم بالعلم والمعرفة ليكون في خدمة مشروع وطني لبناء الدولة الحديثة المتقدمة التي تليق بمصر، والتي تملك مصر كل مقوماتها. كان هؤلاء هم العناوين الرئيسية لصفحة جميلة تضم ألوف الطلبة المتفوقين المبعوثين للخارج، وتضم عشرات الألوف التي تنضم سنويا إلي بناة مصر الحديثة من خريجي الجامعات المصرية. كان الجميع ثمرة ثورة تعليمية حقيقية. وجد فيها أبناء الفلاحين والعمال ومحدودي الدخل أماكنهم بجانب الطبقات الثرية التي كانت تحتكر التعليم لابنائها قبل ثورة يوليو.. كما كانت تحتكر كل شيء جميل في هذا الوطن. كانت مجانية التعليم التي نادي بها طه حسين، وجعلتها ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر واقعا، قد فتحت الأبواب أمام الجميع ليكونوا مواطنين علي قدم المساواة. تلقي الجميع تعليما مجانيا علي أرقي مستوي حين كانت المدارس الخاصة للفاشلين فقط. وتم إرسال ألوف المبعوثين من المتفوقين علي نفقة الدولة للدراسة بأرقي جامعات العالم، وامتلكنا آلاف القامات العلمية، كانوا عماد النهضة في جميع المجالات. وكما كان الاستثمار في التعليم، كان كذلك في الصحة. وعرف الفقراء في الريف والحضر أبواب المستشفيات كما عرفوا أبواب المدارس بعد طول حرمان. ولم يكن ذلك علي حساب التنمية، بل كان لخدمتها. فقد امتلكنا الكوادر القادرة علي صنع التقدم. وامتلكنا طاقة البشر وهم يبنون وطنا يعرفون أن خيراته لهم ولأبنائهم. ورغم الضغوط والحصار الاقتصادي والحروب التي فرضت علينا كنا نحقق تنمية تتعدي ال 7٪ سنويا، وكان النمو في الصناعة في آخر سنوات حكم عبدالناصر، وفي ظل حرب الاستنزاف يتعدي ال 10٪ وكان ذلك يحدث بطاقة البشر الذين أتيحت لهم فرصة الحياة، فأعطوا للوطن كل حياتهم. لم تكن هناك موارد بترولية بعد أن استولي العدو الصهيوني علي سيناء. ولم تكن هناك موارد من السياحة أو قناة السويس أو العاملين بالخارج. كان أبناء مصر الذين وجدوا التعليم المجاني والعلاج الحكومي ولقمة العيش الحلال يبنون وطنهم، ويكونون جيش المليون مواطن من الجامعيين لكي يحموا ما يبنونه، ولكي يردوا العدوان ويرفعوا راية الكرامة علي كل شبر من أرض الوطن. ولم يكن ذنب عبدالناصر انه لم يستطع -بعد رحيله- أن يمنع الانقلاب علي كل ذلك (!!) ولا أن يوقف التراجع في كل شيء.. ليقع مصير البلاد في يد السماسرة والوكلاء، وليتم ضرب أهم تجربة في التنمية والنهوض بمصر في العصر الحديث. وليقف وزير مسئول أمام البرلمان - بعد أربعين عاما من النهب المنظم لثروات البلاد - لكي يقول إن »التعليم راح.. والصحة راحت» لأن عبدالناصر جعلهما حقا للمصريين جميعا!! وليس لأن سنوات الفساد قد اغتالت مشروع النهضة، ليقيموا -بدلا منه- مشروع السمسرة ونهب المال العام، وإعادة تقسيم الوطن إلي قلة تملك كل شيء، وإلي أغلبية يضيع حتي حقها الطبيعي في أن تجد لأبنائها التعليم والعلاج. تراجع التعليم وتدهورت أحوال المستشفيات العامة، لأن المماليك الجدد أقاموا دولتهم الخاصة، وأنشأوا المدارس والمستشفيات والمنتجعات السكنية الفاخرة. ولأن الأنظمة السابقة تركت جماعات الفساد تنهب المال العام، ولأننا -حتي الآن- نساوي في الضريبة العامة بين من يربح الملايين ومن لا يطلب إلا الستر، ونرفض أن نستجيب لما طالب به حتي الحريصين علي الوطن من المستثمرين الوطنيين الحقيقيين الذين يعرفون أن العدل هو الطريق الأقصر للاستقرار، والذين عرضوا أن ترتفع الضرائب بطريقة تصاعدية وبنسبة تقارب الدول المشابهة لأوضاعنا. بل وطالبوا أيضا بضريبة علي الثروات الخاصة التي تزيد علي عشرة أو عشرين مليونا تفرض لمرة واحدة ولتساعد الوطن في عبور الظروف الحالية!! ولعل ما قاله الوزير أمام مجلس النواب أن يكون دافعا لفتح الملفات المغلقة. فيعاد النظر في قضية الضرائب التصاعدية، وتغلق أبواب التهرب من الضرائب، ويتم فرض اقتصاد حرب توزع الأعباء علي الجميع بالعدل، وتسد فيه كل أبواب الفساد، وتسترد فيه كل الأموال المنهوبة. ويتحول فيه التعليم والصحة إلي استثمار حقيقي في أغلي ما نملك.. وهم صناع المستقبل من أبنائنا وبناتنا. عبدالناصر عند ربه منذ ما يقرب من نصف قرن. ومكانه في صفحات التاريخ وفي قلوب الملايين التي تعرف أنه ظل طوال حياته يبني دولة العدل والحداثة ويقاتل من أجل وطن مستقل، ومن أجل أن يجد الذين طال حرمانهم ما يعوضهم عن سنوات الإذلال، وما يوفر لأبنائهم أن يعيشوا في وطن لا يعاقب فيه الفقراء علي فقرهم، بل يعاقب من أفسدوا ونهبوا واستأثروا بكل شيء في هذا الوطن الجميل. وليس هذا دفاعا عن الماضي، بل هو دفاع عن مستقبل نبنيه بالعدل وبالحرية، وبضرب الفساد، وبالانحياز للأغلبية التي تعاني من أجل أبسط حقوقها في تعليم جيد ورعاية صحية تدهورت أحوالها في ظل سياسات الفساد العظيم لأربعين سنة.. كان فيها عبدالناصر في رحاب الله، وفي قلوب الملايين!! أطفالنا.. والوجبة المدرسية!! عاصرت آخر أيام الوجبة المدرسية في الزمن القديم. وكنا نتناول وجبة جافة من الخبز والجبن والحلاوة الطحينية والفاكهة. قبلها حين كانت المدارس للصفوة والأعداد محدودة والمصروفات تكفي كانت هناك وجبة ساخنة. لم نعاصر ذلك. جئنا في زمن المجانية وإتاحة التعليم للجميع. والوجبة الجافة والصحية. علي مدي سنوات، ولم نشاهد حالة تسمم واحدة. كانت الرقابة شديدة، وكان المتعهدون يعرفون نوع العقاب الذي سيلحق بهم إذا تلاعبوا في صحة التلاميذ. وكانت قيادات المدرسة تشرف بنفسها علي كل شيء. ولم تكن طرق الحفظ والتبريد كما هي الآن، لكن الرقابة فرضت الأمانة ووفرت السلامة للتلاميذ الصغار. عندما تبني الدكتور زياد بهاء الدين أثناء عضويته في الحكومة فكرته في اعادة التغذية للمدارس رأي الخبراء ان الأفضل هو »فطيرة العجوة» الغنية بكل عناصر التغذية الأساسية. وتم توفير الاعتمادات وأسند إنتاج الفطيرة لجهات موثوق بها كمصانع تابعة لوزارة الزراعة وتخضع لاشراف دقيق من كل الجهات. حادث ظهور أعراض تسمم علي بعض تلاميذ سوهاج يثير القضية من جديد. يبدو أن هناك محافظات مازالت لا تتلقي الفطيرة الغذائية الآمنة وتلجأ لوجبة جافة اخري من الجبن والحلاوة من المتعهدين، وهو ما ينبغي أن يكون موضع مراجعة. أما الحديث عن الغاء الوجبة، أو صرف مقابل نقدي، فهو حديث بعيد عن الواقع وعن الهدف من هذا المشروع الضروري. الواقع يقول إن هناك محافظات تتجاوز نسبة الفقر فيها نصف السكان. وإن هناك عائلات لا تستطيع توفير وجبتين في اليوم لأفرادها. وإن هناك تلاميذ يذهبون للدراسة -إذا ذهبوا- دون افطار، وعليهم أن يقضوا اليوم الدراسي علي لحم بطونهم، ثم نطالبهم باستيعاب الدروس، أو نستغرب حين نراهم يتسربون من التعليم. الوجبة الغذائية لأطفال المدارس ضرورية. والرقابة عليها ينبغي أن تكون صارمة. والعقاب علي الاهمال أو الفساد فيها ينبغي أن يكون رادعا. والوجبة الغذائية لا توفر فقط جزءا أساسيا من العناصر الغذائية التي يحتاجها الطفل. ولكنها أيضا جزء من عملية استعادة الأطفال للمدرسة خاصة في المناطق الفقيرة. وتحويل المدارس إلي منطقة جذب للأطفال.. يجدون فيها الوجبة الغذائية الضرورية، وشيئا من الرياضة والبهجة الشحيحة في حياتهم. هذا هو المدخل لاستعادة دور المدرسة. وهو ما ينبغي أن تتضافر الجهود في كل أجهزة المحليات في العمل من أجله، وليس ترك المهمة علي وزارة التعليم وحدها. أعرف أن معركتنا طويلة مع الفساد والاهمال. لكننا هنا أمام مهمة وطنية وأطفال يستحقون أي معركة من أجل توفير أبسط احتياجاتهم لكي تكون المدرسة هي مفتاح مستقبلهم.. لأن البديل صعب ومخيف!! سيد الموسيقي العربية.. اعتذار إليه!! يزدحم شهر مارس من كل عام بالمناسبات التي تتعلق بعدد من أعظم فنانينا الذين ولدوا أو رحلوا في هذا الشهر. في نهاية الشهر رحل عبدالحليم حافظ قبل أن يبلغ الخمسين من عمره. وفي الثالث عشر من الشهر ولد الموسيقار محمد عبدالوهاب في بداية القرن الماضي. وقبله بسنوات كان ميلاد عبقري الموسيقي العربية سيد درويش. رأينا احتفالات في دار الأوبرا وفي التليفزيون والاذاعة بذكري عبدالوهاب وعبدالحليم، وإن كنا نأمل في المزيد من الاهتمام إذا كنا بالفعل نريد أن نقاوم القبح الفني والتدهور في حال الأغنية العربية. ومع ذلك فحظ عبدالوهاب وعبدالحليم -من هذه الناحية- أفضل بكثير من حظ سيد الموسيقي العربية سيد درويش الذي كان يستحق هذا العام بالذات أن تخصص له المؤسسات الفنية شهر مارس بأكمله للاحتفال بذكري ميلاده الذي كان قبل قرن وربع القرن. حيث ولد عبقري الموسيقي في عام 1892 بالاسكندرية التي رحل فيها أيضا بعد عمر قصير لم يتجاوز 31 سنة، لكنه في هذه السنوات القصيرة غير تاريخ الموسيقي ومسار الغناء. كنت أتصور أن تقوم »دار الأوبرا» في هذا العام أو هيئة المسرح بإنتاج واحد من »أوبريتات» سيد درويش الشهيرة وأن تزدهر مسارح القاهرة والأقاليم بألحان سيد درويش التي لم تترك ميدانا في الغناء إلا وارتادته لتنقله من عصر إلي عصر جديد، في ثورة فنية فريدة، وبعطاء جنوني جعل هذا العبقري يترك وراءه عشرات الأوبريتات، ومعها أجمل الموشحات، وأدواره العشرة الشهيرة، ويواكب ثورة 1919 بأناشيده الشهيرة التي يتصدرها نشيده الأروع »بلادي.. بلادي» الذي فرض نفسه نشيدا وطنيا رسميا للبلاد حتي الآن. فعل عبقري الموسيقي كل ذلك في سبع سنوات قبل أن يختطفه الموت في عز عطائه.. رحل سيد درويش، ومع رحيله تراجع فن »الأوبريت» حتي اختفي. وحوصرت موسيقي سيد درويش لسنوات طويلة، رغم أن كل أساطين الموسيقي من بعده خرجوا من جلبابه وتأثروا بثورتهم.. بدءا من عبدالوهاب إلي القصبجي والسنباطي، وحتي محمود الشريف ثم كمال الطويل وبليغ حمدي. كان سيد درويش ابن ثورة 19 والتعبير الموسيقي لها. وكان طبيعيا أن يحاصر بعد تراجع الثورة، وأن ينتظر حتي عادت روح الثورة ضد الاستعمار وضد طغيان القصر، ليعود مع نهوض الحركة الوطنية في منتصف الأربعينيات. ثم ليأخذ مكانه ومكانته بعد ثورة يوليو. وليخرج فنه الذي كان محاصرا في غرفة صغيرة بمقر »الاتيليه» في وسط القاهرة كانت تحتلها جمعية أصدقاء سيد درويش، إلي الملايين التي وجدت فيه صوتها وضميرها الفني، والعبقري الذي نقل الموسيقي والغناء العربي من مرحلة »أمان يا لا للي» إلي التعبير الرائع عن وجدان مصري وعربي أصيل. وقد كان لافتا بالنسبة لي أن واحدا من بين من نبهوني وجيلي إلي أهمية سيد درويش كان الراحل الدكتور حسين فوزي وهو يقدم برنامجه الاذاعي الشهير في »البرنامج الثاني» الذي يشرح فيه روائع الموسيقي العالمية، فإذا به يأخذنا إلي سيد درويش ويحدثنا عن عبقريته المتفردة، ويقدم نموذجا عليها لحنه الشهيرة »الشيطان» من أوبريت »البروكة» وبعد سنوات طويلة لم يفاجئني كثيراً أن استمع للعظيم رياض السنباطي في آخر أعوامه وهو يقول »نحن لم نضف شيئا لما تركه لنا سيد درويش»!! قد لا يكون الأمر كذلك بالضبط، فقد أضاف كثيرون.. من القصبجي وعبدالوهاب وزكريا والسنباطي إلي فوزي والشريف إلي الموجي والطويل وبليغ والرحبانية، ولكن الأساس المتين للموسيقي والغناء في مصر والعالم العربي يبقي عند هذا العبقري الاستثنائي الذي نسينا أن نحتفل، هذه الأيام -كما ينبغي- بمرور قرن وربع علي يوم ميلاده. آخر اليوميات من بستان إبداع صلاح جاهين: وبقيت باخاف م الشعر.. بس آه الشعر موت أحلي من الحياة