فجأة.. تحول 60 مليون شخص من الشعب المصري - الذي يعيش 40 بالمائة منه تحت خط الفقر و60 بالمائة تحت خط الجهل - الي سياسيين يتحدثون بشجاعة وطلاقة عن كل شيء. لهم آراؤهم في الثورة ونتائجها وتعليقاتهم علي حالات الفوضي والغياب الامني والتظاهرات الفئوية والمخاوف التي تبعتها.. ولا مانع بالطبع من توقعاتهم للمستقبل وتطور او تدهور الاقتصاد وموعد افتتاح البورصة.. وكلهم متفقون علي ضرورة استعادة الاموال المسروقة من مصر وان تباينت اساليبهم في كيفية استردادها.. ولكنهم مختلفون وبطريقة حادة في تعديلات الدستور والانتخابات الرئاسية والمرشحين لسدة الحكم. الاغلبية من السياسيين الجدد يعترفون بعفوية انهم مبتدئون جدا في عالم السياسة وانهم عاشوا عقودا طويلة يرددون وبلا خجل عبارة (انا ماليش في السياسة).. وكما يعلم الخبراء ان المبتدئ في اي عمل او موضوع يكون دائما متحمسا للغاية ومشوشا باستمرار في افكاره وفي تصرفاته مع العمل او الفكر الجديد. ظروف تجولاتي اليومية بين العديد من الاحياء في القاهرة (من باب الشعرية الي المهندسين ومن مدينة نصر الي شبرا الخيمة) وجلوسي الدائم علي المقاهي بعيدا عن المكاتب الفاخرة الفارهة منحني الفرصة الطيبة للاقتراب من هؤلاء السياسيين الجدد الطيبين.. واستمعت لهم باصغاء واهتمام واعجاب وسعادة وفرحة وسط تناقضات مذهلة بين آرائهم ورغباتهم.. وخرجت منهم بانطباعات مؤكدة ابرزها ان الاغلبية من تلك الآراء منقولة حرفيا ومكررة من الاستماع او القراءة لكبار المفكرين والادباء واهل السياسة.. وبعض الاراء تمثل اجتهادا بديعا او محرفا من الشخص في مزج مجموعة من الاراء بطريقة ظريفة لاستخراج رأي مبتكر.. وهو رأي يأتي غالبا فريدا وبعيدا عن المنطق.. اما الجزء الثالث من الاراء فهو الاطرف والاغرب علي الاطلاق ويطلق فيه الشخص العنان لعقله للابحار وراء سحب الخيال والتوقع والاستنتاج. والجزء الثالث هو ما اثار ضحكاتي او اشجاني.. واحاول هنا اشراككم معي في التعرف علي اغرب ما ذهب اليه السياسيون الجدد من بين 60 مليون سياسي مصري ينتشرون في الساحة الان.. قالت وبعفوية وثقة: عارف يا بيه.. صفوت الشريف هو اللي ورا كل الفوضي والبلاوي اللي بتحصل.. وطالما مش لاقين اي تهمة لصفوت الشريف يلفقوله اي تهمة زي ما كان بيعمل ويسجنوه وساعتها كل الشغب والفوضي حتخلص.. وحتشوف.. واستاءت السيدة جدا من ردي ان ذلك الرأي يعتمد علي الافتراض وهو لايكفي للحكم مهما كانت الشكوك عظيمة.. كما ان الثورة قامت لتقضي علي ظاهرة قبيحة وقذرة ووحشية بتلفيق التهم للابرياء.. فكيف نبدأها بالتلفيق.. وهنا امتعضت وقالت وهي تبتعد: طيب يحددوا اقامته ويراقبوا تليفوناته.. واللهي لازم يمسكوه.. هو عمل فينا شويه.. والحوار هذه المرة مع صديقين مختلفين (وكأنهما اهلاوي وزملكاوي يتحدثان عن الكرة) والاول يتمسك بضرورة اعتذار الشعب للشرطة لتعود الي عملها سريعا وتضبط الامن وتنهي البلطجة.. وان ما تعرض له ضباط وافراد الشرطة في الاسابيع التي تلت نجاح الثورة ليس معقولا ولا مقبولا.. والثاني يرفض منطق صاحبه شكلا وموضوعا مؤكدا ان الشرطة هي المخطئة اولا وثانيا وهي الهاربة من الميدان وعليها ان تعتذر للشعب ليقبل عودتها.. ويتمسك الاول بحتمية الاعتذار للشرطة لانهم اخوك واخويا ويتشبث الثاني بمنطقه لانهم قتلوا وسجنوا اخوك واخويا.. وطالب لايزيد عمره عن خمسة عشر عاما وربما اقل غاضب للغاية من المستشار طارق البشري رئيس لجنة تعديل الدستور لانه جعل الاستفتاء علي التعديلات ببطاقة الرقم القومي وهو لم يستخرجها بعد.. اطرف واروع التعليقات كانت من طفلة (اسمها مروج تامر وعمرها لم يتجاوز ثلاثة اعوام) ويقول اهلها انها ذهبت معهم الي ميدان التحرير مرارا.. وتري ان الناس غلطانة عشان سايبين حسني مبارك يتفسح في شرم الشيخ بعد ما مشي.. ولازم يرجع تاني عشان الفسحة في شرم غالية ومش بنقدر نقعد هناك كتير لما بنتفسح مع ماما وبابا وناني.. الكل في مصر ادمن السياسة بعد ان عشنا ستين عاما (كما قال المفكر محمد حسنين هيكل) في بحر فارغ من السياسة.