ارتبط اسم المستشار جودت الملط لدي ولدي الملايين من أبناء الشعب المصري بكل الاحترام والتوقير والتقدير ببساطة لأنه تحول خلال الاثني عشر عاما الماضية - التي قضاها علي رأس الجهاز المركزي للمحاسبات والادارة - الي المعادل الموضوعي للجرأة في قول الحق وملاحقة وكشف الفساد . والرجل البالغ من العمر 76 عاما وصل في القضاء الي أعلي مراتبه كرئيس لمجلس الدولة وطوال عمله رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات لم نسمع عنه سوي الدخول في مواجهات مع حكومتي الدكتور أحمد نظيف وقبلها الدكتور عاطف عبيد ووزراء الحكومتين كلما حان وقت تقديم التقرير الختامي للجهاز المركزي للمحاسبات في جلسة علنية أمام مجلس الشعب . وعلي رغم تعمد بعض الوزراء أمثال وزير المالية السابق يوسف بطرس غالي وأمين التنظيم السابق عازف الدرامز المهندس أحمد عز تصنع الانشغال عنه باللجوء لأشياء تافهة مثل قزقزة المكسرات واللعب بأجهزة الهواتف المحمولة لاثبات عدم الجدية في التعامل مع التقارير الخطيرة للمستشار جودت الملط الا أن الرجل لم ييأس وواصل الالتزام بمهمته التي ينص عليها قرار انشاء الجهاز وهي - بنص الدستور والقانون - الرقابة علي وزارات الحكومة والشركات العامة وشركات قطاع الأعمال العام ومعاونة مجلس الشعب في الرقابة علي أعمال السلطة التنفيذية . وعلي مدي نحو 12 عاما تولي الملط فيها المسؤولية قدم ألفي تقرير من الجهاز عن أداء حكومتي عبيد ونظيف بواقع 1000 تقرير عن أعمال كل حكومة لكل من رئاسة الجمهورية ومجلس الشعب ومجلس الوزراء وهيئة الرقابة الادارية بل وأحال بعض التقارير الي النيابة العامة لاتخاذ التصرف القانوني فيها نظرا لأنه ليس من اختصاص الجهاز المركزي اقامة الدعوي الجنائية . وعلي مدي الأيام الماضية نشرت بعض الصحف في اطار الفلتان الاعلامي - الذي تعيشه مصر بشكل صار ينذر بالكثير والكثير من الخطر - أنباء عن مظاهرات من جانب بعض العاملين في الجهاز المركزي ضد الملط بحجة اخفائه تقارير رقابية تخص وزارات وشخصيات مهمة وبعدها نشرت تقارير صحفية عن محاولات للبلطجية لاحراق الجهاز مما استدعي من رئيس الجهاز اتخاذ قرار باغلاق الجهاز ليومين بعد ابلاغ الحكومة والمجلس الأعلي للقوات المسلحة خوفا من ضياع المستندات الأصلية للجهاز وتقاريره . والحقيقة ان مثل هذه التقارير أصابتني بكثير من القلق والحيرة التي لم يبددها سوي المداخلة التليفونية للمستشار الملط مع قناة "الحياة " التي وضع فيها كل النقاط فوق كل الحروف . فقد بدا الرجل وقد فاض به الكيل من أكاذيب بعض الكتاب والصحفيين من ذيول النظام السابق وخدم رموزه السياسية الذين حاولوا عبر ما كتبوه في بعض الصحف أن يوصموا الرجل النظيف الشريف بما ليس فيه علي وجه الاطلاق لكن محاولة التعدي علي الجهاز وسرقة بعض الملفات التي كان يتم اعدادها لتقديمها الي النيابة العامة فضح مخططاتهم وأثبت الأهداف الخبيثة لحملتهم التي تستهدف التشكيك في الشرفاء في خلط متعمد مع الفاسدين والمفسدين . وكشف الرجل - في حوار اتسم بكل الصدق والمصداقية - الدور المهم الذي لعبه الجهاز الي درجة تلقيه وكبار المسؤولين من العاملين معه تهديدات بالضرب واحراق المنازل في حال استمرت جهود كشف الفساد . وكان هذا هو ما أكد علي كل ما جاء فيه الدكتور عصام شرف رئيس الحكومة الذي حرص علي عمل مداخلة اعتذر فيها للرجل عما أصابه من اتهامات مرسلة وشائعات تتعلق باستقالته واصفا اياه بأنه قيمة وقامة وأن وجوده في أي موقع هو شرف كبير . .وفي مداخلته أشار المستشار الملط الي أن راتبه من عمله بعد كل هذه السنوات هو 10 الاف و500 جنيه وهو يماثل عشرة أضعاف أقل راتب لمعاون الخدمات " الفراش" في الجهاز وأنه يسكن في شقة بالايجار مساحتها لاتزيد علي 120 مترا وأنه لايملك سيارة وأنه يتنقل بسيارة حكومية يزيد عمرها علي العشرين عاما موجها السؤال لأصحاب الاتهامات المرسلة التي صار توجيهها الي الشرفاء هذه الأيام - بكل اسف - نوعا من الانفرادات الصحفية : أليس منطقيا لمن يتستر علي فساد أن يحصل علي مقابل . وما هو المقابل الذي يمكن ان يدفعه المفسدون الكبار مقابل التستر علي قضاياهم ؟ . وبعيدا عن ما كشفه الملط من أرقام مخيفة تتعلق بتقرير كان في سبيله لتقديمه الي مجلس الشعب قبل صدور قرار بحله حول ارتفاع الفارق بين المصروفات والايرادات في ميزانية 2009 - 2010 الي 124 مليار جنيه مصري تم تمويلهابالاقتراض من الداخل والخارج عن طريق اصدار أذون وسندات خزانة علي الحكومة وارتفاع نسبة صافي الدين العام في 30-6-2010 من الناتج المحلي الاجمالي بالكامل الي 90 ٪ تقريبا . وبعيدا كذلك عن ما كشفه عن ارتفاع نسب الفقر المدقع في صعيد الي أرقام مخيفة تراوحت بين 61 ٪ في أسيوط و47٪ في سوهاج و41 ٪ تقريبا في أسوان و49٪ في قنا . أقول بعيدا عن هذه المعلومات المخيفة فأن ما أثار مشاعر القهر في صدري هو احساسي بمدي المرارة التي اكتنفت حديث الرجل الذي كرمه العالم كله باختياره وعلي مدي سنوات متتالية رئيسا للمجموعة الدولية لمكافحة الفساد فيما تتطاير رءوس الاتهامات المرسلة لملاحقته ونشر الشائعات ضده من جانب ذيول الفاسدين والمفسدين دوما حماية له من جانب وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية التي تعلم لرجل صدقه ونزاهته وأمانته وشرفه . ولا أدري - وايم الله - متي سنطالب أنفسنا بالسكوت من أجل منح أنفسنا الفرصة لاعادة التفكير مجددا قبل الانجرار الي انتهاك أصول العدل التي اشار اليها المحامي الكبير ونقيب الصحفيين السابق رجائي عطية عندما أكد أن الأصل في الانسان هو البراءة باعتبارها اليقين الذي لا يمكن اسقاطه سوي بيقين مساو يمثله فقط حكم نهائي بات لا استئناف له بعكس البراءة . ومن هنا أجدني للمرة الثانية مدفوعا الي مطالبة النائب العام المصري المستشار الدكتور عبد المجيد محمود الي توجيه أعضاء النيابة العامة الي ضرورة ابعاد الظروف والأجواء السياسية جانبا وعدم اللجوء الي أحكام الحبس علي ذمة التحقيق واتخاذ الاجرءات الاحترازية بمنع التصرف في الأموال السائلة والمنقولة في اتهامات تبدو كسيحة أو عرجاء عبر بلاغات يتقدم بها بعض ضعاف النفوس أو هواة الشهرة دون أسانيد أو وثائق واعتمادا فقط علي شبهات لا يقين فيها. حفظ الله مصر وطنا للعدل والحرية والمحبة والأمن والأمان .