بصوت يقطر مرارة وحسرة، وتخنقه العبرات، تحدث المستشار الجليل الدكتور جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات إلي فضائية "الحيام اليوم"، رداً علي تصريحات صحفية اتهمته ب "التقاعس" عن كشف وقائع الفساد التي انتشرت كالسرطان في ظل النظام السابق للرئيس المخلوع حسني مبارك. وفي سياق رده قدم الرجل ما يشبه ب "كشف حساب" للأعوام الاثني عشر التي تولي فيها رئاسة هذا الجهاز الرقابي المهم، مشيراً إلي أنه قدم 2000 تقرير تحتوي علي مخالفات جسيمة وملاحظات جوهرية علي أداء حكومتي الدكتور عاطف عبيد والدكتور أحمد نظيف، تم إرسالها إلي رئاسة الجمهورية، والحكومة، ومجلسي الشعب والشوري. لكن كل هذه الجهات وضعت هذه التقارير علي الرف ولم تبحث ما ورد فيها من انتقادات وملاحظات ومخالفات صارخة، مؤكداً أن مجلس الشعب علي سبيل المثال لم يبحث سوي 10% من هذه التقارير.. وكان تناوله لها تناولاً شكلياً ينتهي في كل الأحوال بالجملة التقليدية "الانتقال إلي جدول الأعمال"، وهو التعبير "المهذب" عن إهمال كل ما جاء في هذه التقارير وإلقائها في سلة المهملات، رغم ما تحتويه من تحذيرات ومن أمور بالغة الخطورة، منها علي سبيل المثال كيف وصل الدين الداخلي في السنة المالية 2009/2010 إلي 888 مليار جنيه، وكيف وصل صافي الدين العام إلي 1020 مليار جنيه، أي إلي 5.89% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مخيفة بكل المعايير، ونتائجها علي الاقتصاد الوطني وخيمة. كما احتوت التقارير وقائع لا تقل خطورة عن ملفات ملغومة عديدة أخري، منها ملف الخصخصة وملف أراضي الدولة المنهوبة.. مشيراً علي سبيل المثال إلي كشف تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات أن الأراضي التي تم تخصيصها لحفنة من المحظوظين و"المحاسيب" بأسعار رمزية بحجة الاستصلاح والاستزراع خدمة للأمن الغذائي قد تم استغلالها في بناء منتجعات وملاعب جولف. فماذا فعلت الحكومة بعد الوقائع الدامغة التي كشفتها تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات؟! كل الذي فعلته أنها فرضت "غرامة" علي هؤلاء المحاسيب المحظوظين قيمتها 47 قرشاً عن كل متر، تسدد بالتقسيط علي خمس سنوات.. فيالها من غرامة رادعة؟!! * * * هذه المعلومات التي جاءت علي لسان المستشار الدكتور جودت الملط محزنة جداً، وهي في حد ذاتها كانت كافية لاندلاع ثورة ضد نظام كان يمثل في حقيقة الأمر تحالفاً بين الاستبداد والفساد. لكنها ليست معلومات جديدة، فقد رصدناها وأشبعناها بحثاً وتحليلاً وبالذات في الأعوام الأخيرة من عمر النظام السابق. بيد أن هناك فارقاً كبيراً بين أن تأتي علي لسان رئيس أهم جهاز للرقابة وبين أن تأتي علي ألسنتنا نحن الكتاب والصحفيين. فضلاً عن أن ما شدد عليه المستشار جودت الملط يبدد تلك الأوهام والخرافات التي يروجها البعض في معرض الدفاع عن الرئيس السابق حسني مبارك، ونظامه المتداعي، حيث دأب هؤلاء علي الزعم بأن مبارك لم يكن علي علم بحجم هذا الفساد العظيم.. وهو زعم خائب لأن الرئيس السابق إذا لم يكن يعلم فتلك مصيبة عظمي، فما بالك وأن ما قاله جودت الملط يعني أنه قد أحيط علماً بكل كبيرة وصغيرة في هذا الملف الذي باتت رائحته تزكم الأنوف، ولم يفعل شيئاً رغم استلامه ألف تقرير من الجهاز المركزي للمحاسبات ب "علم الوصول"!! * * * وما قاله المستشار الجليل بهذا الصدد يبين كيف تغلغل الفساد وأصبحت له الكلمة العليا. لكن الجانب "الذاتي" لا يقل دلالة عن ذلك الجانب "الموضوعي" الذي ذكره الدكتور جودت الملط. والجانب الذاتي الذي نقصده هو ما ورد علي لسان الرجل بشعور عميق بالحرج الممزوج بإحساس أصيل بالكرامة واحترام الذات حين أشار إلي أن مرتبه الشهري بعد 43 عاماً من العمل في أرفع مناصب القضاء ثم 12 عاماً من العمل في قمة أهم جهاز للرقابة في مصر لا يزيد علي عشرة آلاف جنيه!! (قارن ذلك بالأرقام الفلكية التي نقرؤها والتي تعد بالملايين شهرياً التي يتقاضاها صغار كبار وكبار صغار البيروقراط وحتي بعض الصحفيين في مؤسسات صحفية "قومية"!!).