لم يَدُرْ في خَلَدي يوماً أن أدافع عن المقاهي وأصحابها.. فأنا بطبعي لا أحب الجلوس علي المقاهي أو نسختها الحديثة المسماة "كافيهات".. وأري أن رواد المقاهي لا يُضيعون أموالهم فقط وإنما يرتكب بعضهم خطيئة لا تُغتفر في حق أنفسهم وفي حق الإنسانية عندما يستهلكون أوقات فراغهم فيما لا طائل من ورائه.. ولكن المقاهي تحولت بفعل عوامل كثيرة وعلي مدي سنوات طويلة إلي جزء لا يتجزأ من حياة الكثيرين وخاصة أصحاب المعاشات.. غير أنها تمثل مكاناً مثالياً "للبيزنيس" وعقد الصفقات للعديد من أصحاب المهن الحرة مثل المحامين والتجار والسماسرة.. وتزايد هذا النشاط الأخير خلال سنوات الانفتاح وما بعدها مع تزايد الأعمال التجارية المشروعة وغير المشروعة من فوق "الترابيزة" ومن تحتها.. والمُلاحَظ أن "بيزنيس" الكافيهات شهد طفرة غير مسبوقة في العقدين الأخيرين.. وساهمت في ذلك عوامل مختلفة دفعت بفئات عديدة من جيل الشباب إلي المقاهي والكافيهات ليحتلوا صدارة المشهد وفي أيديهم وأفواههم "الشيشة" التي صار تعاطيها صرعة أو موضة العصر والأوان للشباب من الجنسين.. ويرجع رواج سوق الكافيهات وتدفق جموع الشباب إلي واجهاتها وأروقتها إلي تفاقم ظاهرة البطالة وعجز أجهزة الدولة عن توفير أماكن كافيه، سواء في الأندية أو مراكز الشباب، لاستيعاب جيوش الباحثين عن فرصة لتفريغ طاقاتهم وشغل أوقات فراغهم بنشاط محمود ومأمون.. ناهيك عن كارثة لجوء الكثير من الساحات الرياضية ومراكز الشباب الحكومية وخاصة في الصعيد إلي تأجير ملاعبها وصالاتها بالساعة لشباب فقير يسعي لإشباع هوايته في ممارسة الرياضة !!.. إلا أن أكثر ما دفع الشباب بالذات وجمهور كرة القدم عموماً، إلي ارتياد المقاهي والكافيهات بصورة مكثفة ومنتظمة و"مقبولة اجتماعياً".. كان حصول إحدي القنوات الخليجية علي حقوق البث الحصري لجميع المسابقات القارية والعالمية المهمة في كرة القدم.. وتسبب احتكارها للمباريات وتشفيرها نظير اشتراكات باهظة وليست في مقدور الغالبية العظمي من الجمهور الرياضي، في ازدهار بيزنيس الكافيهات التي حولت المسألة إلي "صناعة" أو "تجارة" متكاملة.. وهنا حدث تحوّل فارق في نظرة المجتمع إلي المقاهي والكافيهات والتعاطي معها.. إذ لم يعد لدي الآباء وأولياء الأمور تحفظات تُذكر علي ارتياد الأبناء لهذه الأماكن لمشاهدة المباريات بعد أن كانوا يحذرونهم من مجرد الاقتراب منها، بل كثيراً ما يرتاد الآباء المقاهي والكافيهات صحبة أبنائهم لمشاركتهم متعة مشاهدة المباريات!!.. ولأننا بلد العشوائيات والفوضي بامتياز حيث تنتشر الأبراج المخالفة تحت أنظار الجميع وحيث يسد التوكتوك عين الشمس وهو غير مرخص، انتشرت "صناعة" الكافيهات بصورة "وبائية" رغم وقف التراخيص منذ عدة سنوات!!.. ومع التوسع الرهيب في فتح الكافيهات الحديثة والفخمة تم ضخ مبالغ خيالية في هذه الصناعة وتم توظيف مئات آلاف الشباب فضلاً عن "تجنيد" أعداد كبيرة جداً من عناصر الأمن و"البلطجية" لحماية الأموال المستثمرة في هذه المشروعات المكشوفة والمفتوحة علي الشوارع والميادين.. وفي غياب الأمن الجنائي نتيجة تركيز جهاز الشرطة وانشغاله بالأمن السياسي أساساً، وقعت الكثير من حوادث الخروج علي القانون وأعمال العنف التي وصلت حد قتل شاب بمصر الجديدة وهو ما أحدث صدمة هزت المجتمع وتسببت في الحملة المكبرة التي أثارت صدمة أكبر لأنها شهدت تجاوزات غير مبررة وخربت بيوت عشرات الآلاف من أصحاب الكافيهات والعاملين فيها.. ونحن بالقطع مع تنفيذ القانون علي الجميع ولكن ذلك يجب أن يتم في إطار إزالة المخالفات فقط وليس الانتقام والتدمير وتشريد العاملين وقطع عيشهم.. ويجب ألا تمر هذه الحملة "البربرية" دون محاسبة وعقاب لأن المطلوب هو تقويم المواطنين وليس ذبحهم وتدمير ممتلكاتهم ومصادرة حاضرهم ومستقبلهم.. علماً بأن "تطفيش" عمال وزبائن الكافيهات سيلقي بهم حتماً في هاوية البطالة والإرهاب!!..