في زمن الطرابيش قامت الست الطيبة « عفيفة « بتجهيز زيارة لابنها الشاب الذي يدرس في القاهرة نظراً لطول غيابه لانشغاله في الدراسة وقررت أن تذهب إليه في مفاجأة تراها تسعده، وهي تعرف أنه اشتاق لأن يأكل من صنع أيديها الحانية، ولأنها لأول مرة تزور قاهرة المعز فقد توهتها الشوارع بعد خروجها من محطة مصر وأسلمتها قدماها إلي شارع شهير في تلك الفترة بأنه المركز الرئيسي لبيوت الدعارة التي يقف علي أبوابها ويطللن من نوافذها بائعات الهوي شبه عرايا، وهن نسوة مرخص لهن من قبل الجهات الرسمية في تلك الآونة بممارسة البغاء.. وبمجرد رؤية الست عفيفة لهذا المشهد سقطت حمولة الزيارة من بين يديها وصرخت صرختها المدوية « هوه مافيش عسكري ؟! « وبقدر ارتفاع صرختها إلي عنان السماء، كان تعالي ضحكات الناس في الشارع،و أدهشها أكثر تعايش الناس مع هذا المشهد ببلادة وبرود. حكاية الست عفيفة وصرختها الشهيرة صارت نكتة تتناقلها الأجيال في بلدة هذه السيدة الطيبة حتي الآن ليس لطرافتها فقط وتوفر الأسباب الفنية لصناعة دراما كوميدية، الأهم في هذه الحكاية مدلول ذلك الضعف الإنساني الهائل الذي ينتاب الإنسان في مواقف ولحظات كثيرة تجعله يصرخ مستغيثاً بأي قوة تحميه من بطش أو فساد أو اعتداء علي حريات فتكون المفاجأة عندما يجد أن الشر والفساد قد استوطن واستقر وأصبح من مفردات حياة الناس ولا يثير لديهم أي نوع من الاستهجان، بل ومرخص به في بعض الأحيان من جهات حكومية !!!.. لقد ظل الإنسان وبشكل خاص في المجتمعات النامية أمام أسئلة لا نهائية في علاقته بالواقع والسلطة والشارع والمجتمع، وأري أن الفارق بين الدول المتخلفة والمتقدمة أن المواطن في الحالة الثانية يجد الإجابة والاستجابة لأكبر قدر من تلك الأسئلة، ولا تظل الأسئلة حائرة دون جواب شافٍ ومقنع مثلما يحدث في الحالة الأولي.. أخيراً أود الإشارة إلي أن العسكري الذي يجب أن تستدعيه ذاكرة المستغيث ليس دائماً رمز السلطة أو الرقابة أو التفتيش أو حتي أصحاب القرار فقط، وإنما العسكري قد يكون في الكثير من الأحيان هو الضمير والقيم لدينا جميعا فكلنا يجب أن يستصرخ العسكري داخله ولا نحمل الحكومة والسلطات كل المسئولية لنستريح تلك الراحة المزيفة بمجرد إطلاق صيحة «هوه ما فيش عسكري؟!!».