يسعدني أن أري انتشار الاهتمام بمخاطر التغيرات المناخية علي مصر. وهو الموضوع الذي كتبت عنه مقالاتي الأخيرة، فضلا عن سلسلة المقالات السابقة التي نشرتها بعنوان »آخر قرون الإنسان«. فالوعي بهذه المخاطر يجنبنا آثارها المدمرة. والواعي هو من يدرك النار قبل أن تحرقه. وقد نشر مجموعة من الشباب موقعا علي ال»فيس بوك« بعنوان »حملة إنقاذ مصر من التغيرات المناخية«. من أهم ما فيها أنهم ينشرون صورا فوتوغرافية وأفلاما تصور الأضرار التي أصابت بعض المناطق في مصر بالفعل من هذه التغيرات. والقادم أسوأ ما لم نتجنبه. وقد وصلتني رسالة من هذا الموقع تقول: »أتشرف أنا وجميع أعضاء الحملة بوضع جميع مقالاتك في الموقع شكرا لك وشكرا لمجهودك«. وإذا كان العالم كله يعاني من التغيرات المناخية فالأخطر في مصر أننا نعمل بأيدينا علي زيادة هذه المخاطر. وسوف أضرب هنا أمثلة من واقع ما ورد في أبحاث علمية معتبرة: لدينا أربع بحيرات شمالية في الدلتا هي بحيرات »المنزلة والبرلس وإدكو ومريوط«. لهذه البحيرات فوائد عديدة منها أهميتها كنطاق متعادل في استيعاب مياه البحر الزائدة حال اقتحامها للشواطئ واندفاعها نحو السهول الجنوبية. ومع ذلك قام مصريون مسئولون وغير مسئولين بتقليص مساحات هذه البحيرات. كانت مساحات هذه البحيرات نحو 3242 كم2 عام 1949 وصلت العام الماضي إلي 1537 كم2 منها 1070 كم2 فقط مغمورة (تحت سطح الماء)، والباقي كثبان رملية ورواسب ملحية وطرق وجسور. أي أن نحو 66٪ من مساحات هذه البحيرات تم تجفيفها خلال ربع القرن الأخير. لم يكتفوا بذلك، بل قاموا بتقطيع بحيرة مريوط جنوبالإسكندرية إلي عدة بحيرات منفصلة عن البحر. ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا بصرف مياه الصرف الصناعي والآدمي فيها. أدي كل ذلك إلي اختزال الأكسجين وتحولها إلي بحيرة راكدة يتركز بها غاز ثاني أكسيد الكبريت، وتتجمع فيها رواسب غنية بالعناصر السامة مثل الزئبق والكادميوم والرصاص والزنك مما لوثها تلوثا شديدا. هذا علاوة علي فقدان المصدر الرئيس للثروة السمكية في مصر التي تمثل في البحيرات الشمالية نحو 60٪ من جملة الثروة السمكية في مصر. كما أن بحيرة المنزلة التي كانت تنتج نحو 30٪ من إجمالي إنتاج الثروة السمكية في مصر قد انتابها تلوث بيئي كبير نتيجة استمرار إلقاء مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي في الجزء الجنوبي من البحيرة المستغل كمجمع عام للصرف الصحي للمحافظات المجاورة مما أدي إلي نفوق الأسماك بكميات كبيرة والإضرار بالسكان. قام مصريون وما زالوا يقومون بالسحب المستمر غير المرشد للمياه الجوفية، مما أدي إلي تدهور نوعية هذه المياه في المناطق الشمالية للدلتا، وزيادة ملوحتها علي طول الساحل بعمق 63 كيلومترا إلي الداخل، وتعرضها للتهديد بالاختلاط الكامل بمياه البحر حال ارتفاع منسوب سطح البحر واجتياح مياه البحر للأراضي المنخفضة جنوب الساحل. وفي هذه الحالة سوف يتحطم الخزان المائي الموجود تحت هذه المناطق. كما يتم استخدام البحر كمصرف للصرف غير الصحي مما يزيد من التلوث البيئي علي سواحل الدلتا بمجرد غزو البحر لهذه السواحل، ويزيد من احتمال ظهور الأمراض الوبائية. وتجريف الأرض الزراعية لصالح التوسعات السكنية خارج الكردونات المخصصة لها في السهول الزراعية الساحلية المنخفضة عن منسوب سطح البحر. الأمر الذي لا يقلص فقط المساحة الزراعية، وإنما أيضا يهدد هذه التوسعات السكنية بالغرق عند ارتفاع منسوب سطح البحر، ويزيد من حجم الخسائر البشرية. أي أننا سوف نخسر الأموال التي أنفقت في هذا التعمير الخاطئ وسوف نخسر البشر الذين يعمرونه بعد خسارتنا للزرع. وإذا كانت أمية القراءة والكتابة لا تزال موجودة في مصر بنسبة كبيرة ونحن في القرن الواحد والعشرين !! فالأمية البيئية منتشرة انتشارا أكبر بكثير. من نتائج انتشار هذه الأمية إزالة الكثبان الرملية الساحلية بدلا من تثبيتها بالتشجير. واستغلال هذه الكثبان تجاريا في أعمال البناء دون مراعاة للأهمية الاستراتيجية لهذه الكثبان (مثال ذلك: الكثبان الرملية شمال وشرق إدكو وفيما بين إدكو والبصيلي وعلي طول ساحل خليج أبي قير الجنوبي والشريط الساحلي بين جمصة ورأس البر). ولا يمكن ونحن نتحدث عن المخاطر البيئية من صنع البشر أن نتجاهل التغيرات التي حدثت بسبب إقامة السد العالي وتحويل نظام الري إلي ري دائم. فقد أدي ذلك إلي توقف ترسيب الطمي أمام سواحل الدلتا، وبمرور الوقت، إلي اختلال النظام النهري وخروجه عن الاتزان الطبيعي. الأمر الذي تسبب مباشرة في إيقاع الضرر البالغ بالدلتا المصرية وهيأ سواحلها لاجتياح البحر حال زيادة المنسوب العالمي أو المحلي بأي مقدار. إن مصر تعاني اليوم وسوف تعاني مستقبلاً من سلبيات حجز طمي النيل خلف السد وأثره علي خصوبة التربة الزراعية وإضعاف الأحزمة الرملية التي تحيط بالدلتا من ناحية البحر. حيث تتضافر كل هذه السلبيات مع التغيرات المناخية التي سوف تجتاح العالم خلال هذا القرن لتلحق دماراً واسعاً في شمال الدلتا المصرية يفوق الدمار الذي سوف يلحق بالسواحل الأخري التي تطل علي البحر الأبيض المتوسط، بل يفوق الأضرار التي ستلحق بدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فتوقف ضخ الطمي في نهر النيل قد ترتب عنه عدم تجديد الطبقة السطحية الصالحة للزراعة علي طول مجري نهر النيل شمال السد. فهذه الطبقة تتعرض للجفاف والنحر بفعل العوامل الجوية بمرور الوقت خاصة في أوقات الجفاف أو نقص مياه النهر. إلا أنه يتم ترطيبها وتقويتها بما يتم ترسيبه من الطمي سنويا. فمنذ آلاف السنين ودلتا نهر النيل تتميز بخصوبتها حيث يثمر النهر رواسب غنية بالمواد المغذية للتربة التي تجعلها نموذجية للزراعة. وهذه الرواسب كانت تقدر قبل عام 1964 بنحو 111 مليار كيلو جرام سنويا، منها 93 98٪ كان يصل إلي المصبات خلال مواسم الفيضان من يوليو إلي نوفمبر. وقبل إغلاق ممر النهر بالسد العالي بلغت حمولة النهر السنوية عام 1964 نحو 55 مليار متر مكعب منها 34 مليار متر مكعب خلال أشهر الفيضان. أما الآن ومنذ استكمال إنشاء السد العالي فقد أصبحت هذه الرواسب كما مهملا إذا ما قورنت بنحو 100 مليون طن متري من الغرين (الطمي) محفوظة خلف السد العالي سنويا. وعلي الرغم من أن إنشاء السد العالي قد خلق بحيرة السد العالي التي تمتد نحو 270 كم جنوب السد، وأضافت البحيرة أرضا جديدة للزراعة نتيجة كمية المياه الكبيرة المخزونة، كما ازدهرت منها صناعة الصيد، إلا أنه لسوء التخطيط تسبب السد العالي في خلل كبير في ظروف البيئة في منخفضات النهر. هذا الخلل يتلخص في بضع كلمات هي: خروج النظام النهري عن حالة الاتزان.فمن أهم الصدمات فقدان الدلتا للخصوبة نتيجة فقدان النهر لحمولته السنوية المعتادة، مما دفع الفلاحين إلي استخدام المخصبات الصناعية التي بدأت بدورها في التسرب خلال التربة. ولم يعد النهر قادرا علي غسل مجراه نتيجة النقص الشديد في كمية المياه في المجري. فبحيرة السد العالي حجزت واختزلت كمية المياه الطبيعية التي يحملها النهر عادة، حيث يطلق السد حاليا نحو 25٪ من حمولته من المياه مقارنا بما كان عليه الحال قبل إنشائه. إذا كنا قد زدنا بأيدينا من مخاطر التغيرات البيئية علينا، فيجب أن نسارع، رغما عنا، بالعمل علي تصحيح ما أفسدناه بأقصي ما نستطيع. قدم لنا الأستاذ الدكتور خالد عودة، الذي استقيت منه كل المعلومات الواردة هنا، ما يجب علينا أن نفعله، وهذا ما سألخصه في الأسبوع القادم.