«أكتوبر هو شهر المفاجآت.. وأكبر المفاجآت تلك التي حدثت في السادس من أكتوبر 1973.. المفاجأة التي أذهلت العالم وحولت الكابوس المزعج إلي حلم جميل» 41 عاما مرت علي انتصار السادس من أكتوبر.. مرت كل تلك السنوات سريعة كالبرق علي كل من عاصرها.. ولأني عاصرت هذه السنوات، فمن الطبيعي أن أبحث في كل سنة عن اختلاف في شكل أو مضمون الاحتفال يميزه عن الاحتفال الذي سبقه. في الاحتفالات الثمانية الأولي كان العرض العسكري هو سيد المشهد.. وقد شاركت في اثنين منها أثناء وجودي بالقوات المسلحة.. ولا أجد أية كلمات أعبر بها عن الفخر الذي كنت أشعر به في تلك اللحظات.وفي نهاية تلك السنوات الثمانية جاء اليوم المشئوم الذي اغتالت فيه يد الإرهاب الأسود بطل الحرب وصانع السلام القائد محمد أنور السادات. طوال السنوات ال29 التي أعقبت ذلك لم نكن نسمع الا عن الضربة الجوية الأولي والتي كانت السبب الوحيد للنصر.. ومع كل احترامي وتقديري لأبطال القوات الجوية وقائدهم في المعركة اللواء محمد حسني مبارك وتقديري لدورهم العظيم في المعركة وأن بطولاتهم وشجاعتهم كانت سببا رئيسيا وحاسما في تحقيق النصر.. الا أن اختزال الحرب كلها في الضربة الجوية كان ظالما لجيل كامل من الأبطال.. وسبب قدرا من التجاهل لأدوار الكثيرين ممن خططوا للمعركة ومهدوا لها وشاركوا في صنع النصر من بدايتها الي نهايتها. أما في السنوات الأربعة الماضية فكان كل احتفال منها مختلفا عن الآخر.. الأحتفال الأول بعد ثورة يناير كان محدودا في ظل أحداث متوترة ودموية شهدتها دولة بلا دولة وعاشها شعب بلا قائد. الاحتفال الثاني كان الاحتفال المشئوم في ستاد القاهرة حيث جلس القتلة والأرهابيون في الصف الأول في الاحتفال الذي غاب عنه رجال القوات المسلحة وكانت الرسالة واضحة.. مصر تتغير وتتحول الي دولة ارهابية. الاحتفال الثالث جاء بعد أن عادت مصر الي شعبها وأصلها.. احتفال رعاه المستشار الجليل عدلي منصور الرئيس المؤقت وفيه عاد الي الصفوف الأولي الأبطال الحقيقيون للنصر وأسر الشهداء الحقيقيين في الحرب. ويجيء احتفال هذا العام وهو الأول في حكم الرئيس السيسي ليعود العرض العسكري المتطور ويعود الحديث عن البطولات الحقيقية.. ويرفع الجيش فيه لأول مرة سلام سلاح للشعب. أعود الي فكرة البطولات العظيمة التي نسيناها ونحن نقصر حديثنا عن الحرب في الضربة الجوية.. أعود الي أهم فكرة عبقرية في الحرب.. وهي فكرة هدم خط بارليف.. ولمن لا يعرف من هو خط بارليف أقول له أنه عبارة عن مواقع حصينة جدا تمتد علي طول القناة يربط بينها ساتر ترابي يمنع القوات المصرية من عبور القناة. اللواء اركان حرب متقاعد باقي زكي يوسف رئيس فرع مركبات الفرقة19 هو صاحب فكرة فتح الثغرات في الساتر الترابي بخراطيم المياه. حيث كان يعمل في السد العالي منذ عام1964 وحتي أوائل عام1967. وفي شهرمايو من عام1969 صدرت التعليمات للتشكيل باتمام الاستعداد للعبور قبل نهاية اكتوبر من نفس السنة. عن المهمة يقول: بدأنا ندرس مشاكل العبور وعلي قائمتها جاءت مشكلة فتح الثغرات في الساتر الترابي، وقد تم اجراء تجارب بالتفجير سواء مدفعية او صواريخ ولم تنجح، وفي احد الاجتماعات قفزت الي ذهني فكرة استخدام المياه في فتح الثغرات، واستخدام تكنولوجيا التجريف في فتح ثغرات الساتر الترابي. ويحكي اللواء باقي: كانت فكرة التجريف في الساتر الترابي تعتمد علي دفع الماء وتسليطه علي الساتر الترابي فتنزل الرمال وتجرفها الي قاع القناة حتي يتهدم الساتر وتفتح الثغرة، وهذا التجريف يقلل الخسائر ويوفر في الوقت والمال ايضا وكانت الفكرة بسيطة ومناسبة خاصة ان الساتر الترابي يقع علي الحافة الشرقية للقناة بالاضافة الي انه مائل حيث استغل العدو وجود الكثبان الرملية القديمة وبني عليها حائطا علي الضفة الشرقية للقناة ليفقدنا طموحات العبور. والكلام مازال للواء باقي: عرضت الفكرة علي قائد الفرقة المرحوم اللواء سعد زغلول عبد الكريم وعندما شرحتها طلب مني ان اعيد كلامي مرة اخري بتفاصيل اكثر وبعد12 ساعة تم نقل فكرتي الي اعلي مستوي في القوات المسلحة وذهبت مع قائد الفرقة الي قائدالجيش بحضور رئيس مهندسي الجيش وتقابلنا مع رئيس هيئة العمليات واعطيته صورا خاصة بالتجريف في السد العالي، وبعد يومين طلبني قائدالتشكيل واخبرني بأنه قرر عرض الفكرة علي الرئيس جمال عبد الناصر وكتبت تقريرا مفصلا عن الفكرة واسلوب تنفيذها وعندما تم عرضها أمر الرئيس جمال عبد الناصر بتجربتها وتنفيذها في حالة نجاحها.. كانت الثغرة عبارة عن حفرة يتراوح حجم الرمال فيها من1500 الي2000 متر مكعب وكانت ابرز الصعوبات التي واجهتنا تتمثل في ان الطلمبات المستخدمة في السد العالي ثقيلة فأحضرنا طلمبات اقل في الحجم وذات ضغط عال وهذا ساعد كثيرا علي امكانية فتح الثغرة في4 ساعات فقط بينما كانت التجارب تؤكد انه لن يتم فتح الثغرة الا بعد24 ساعة وقد احتفظنا في هذه العملية بسرية كاملة منذ عام1969 وحتي تم تنفيذها في اكتوبر1973 حيث لم يكتشف العدو اي شيء وبدأنا في إحضار الطلمبات وتدريب القوات واستخدمت هذه الطريقة في ملحمة العبور بصورة أذهلت العالم أجمع. فكرة اللواء باقي زكي يوسف رغم بساطتها الا أنها كانت فكرة عبقرية من خلالها عبرت قواتنا الي شرق القناة ورفعت علم مصر من جديد فوق سيناء.