ولعل هذه الخرافات كانت - ولا تزال - أهم أسباب انتشار الفضائح الفكرية في بعض مراجعنا السبت: بعض دعاة الاسلام أصبحوا دعاة ضد الاسلام من حيث لا يشعرون.. هذا أقل ما يمكن الحكم به عندما أتابع ما يقولونه سواء في المساجد أو علي شاشات الفضائيات أو حتي علي مواقعهم الإلكترونية.. هم يقدمون ترهات علي أنها تقوي ويقدمون هراء علي أنه سنة.. وينسبون إلي النبي صلي الله عليه وسلم أحاديث غريبة تتضمن أحكاما متناقضة بشكل فاضح مع أحكام القرآن الكريم.. ودائما ما يستشهدون بها وقلّما يتذكرون القرآن ليستشهدوا منه ولو بآية.. هؤلاء الدعاة كل مؤهلاتهم في الدعوة أنهم حفظوا كتب الصحاح عن ظهر قلب وحفظوا من القصص التي جاءت فيها ما حفظوا، وصار نهجهم القصصي محببا لدي الناس وسببا في شهرتهم وذيوع صيتهم.. فزعموا أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتركون تسعا وتسعين بابا من الحلال خشية أن يقعوا في باب واحد من الحرام.. بينما أن هذا المسلك يخالف ما جاء في كتاب الله الذي حدد الحرام بالاسم في أقل القليل إذا ما قورن بالحلال الكثير جدا الذي أحله الله لنا.. وتراهم يقصون الخزعبلات عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكيف أنه كانت له مجاري سوداء علي كلتا وجنتيه من كثرة الدمع من خشية الله.. وفي الحقيقة أن تلك المجاري لكي تحدث بالفعل يلزم لها عدد من السنين يفوق أضعاف مضاعفة للسنوات التي عاشها سيدنا عمر في ظل الاسلام.. ثم هل كان عمر أكثر إيمانا من أبي بكر الذي جاء ذكره في القرآن في آية "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" فلماذا لم تكن لأبي بكر تلك الحفر علي وجنتيه؟.. هناك أيضا قصة ذلك الرجل الذي أرادوا أن يبتروا قدمه فطلب منهم أن يقطعوها بعد أن يدخل في الصلاة لأنه لا يشعر بشيء إذا ما دخل في الصلاة.. بينما في الحقيقة أنه لو كان النبي صلي الله عليه و سلم نفسه هو الذي اضطر لإجراء مثل هذه العملية الجراحية الخطيرة فقد كان سيشعر حتما بكل آلامها لأنه بشر "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا".. من بين القصص الغريبة أيضا التي ما أنزل الله بها من سلطان قصة أبي هريرة الذي أمسك بالشيطان و كيف أن الشيطان أطلعه علي أسرار من عنده بدلا من أن يغويه لكي يطلق أبو هريرة سراحه.. وعلي ذكر أبي هريرة فبالرغم من كونه أحد أهم رواة الحديث إلاّ أنه كان أيضا الوحيد الذي تم التشكيك في أمانته العلمية و هو يقوم بتلك المهمة الخطيرة (ولا أقول ذلك من دماغي وإنما من واقع ما جاء في البخاري ذاته).. كل هذه الخرافات وغيرها قد انطلت في عهود سابقة علي رجال رضوا بأن تطمس عقولهم وتستدرجهم عواطفهم فلم يروا الحقائق بنور العقل والمنطق، وللأسف الشديد لا يزال من بيننا من يقدس تلك الروايات الغريبة.. ولعل هذه الخرافات كانت - ولا تزال - أهم أسباب انتشار الفضائح الفكرية في بعض مراجعنا والتي تعامل معها الناس علي أنها علوم مقدسة مثل رضاع الكبير و الاستشفاء ببول النبي.. أمّا الطامة الكبري في نظري فهي في الأقوال المنسوبة ظلما للرسول صلي الله عليه وسلم والتي قيل أنها أحاديث شريفة، وتتضمن أحكاما تتناقض تماما مع ما جاء في كتاب الله تعالي، ونري الدعاة وهم يتشددون ويتعصبون وينتصرون لها علي حساب الأحكام القرآنية.. وحجتهم في ذلك هي الآية الشريفة" وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي".. و هنا لنا وقفة لابد منها.. وهل كان القرآن ناقصا؟.. الأحد: بداية يشرح لنا الكاتب والمفكر الاسلامي أحمد عبده ماهر معني "وما ينطق عن الهوي" وذلك في كتابه "كيف كان خلقه القرآن" فيقول إن بعض أصحاب الغلو في مقام رسول الله صل الله عليه وسلم والغلو في سنته تبنوا مفاهيم خاصة عن معاني بعض آيات كتاب الله وخاصة قوله تعالي "وما ينطق عن الهوي إن هو إلاّ وحي يوحي".. فتصوروا أن كل ما قاله وما تلفظ به صلي الله عليه وسلم كان وحيا من عند الله سبحانه وتعالي.. ثم غالي البعض منهم مرّة أخري إلي أن تصوروا أن كل ما ورد في كتب الصحاح وخاصة البخاري ومسلم عند أهل السنّة والكافي عند الشيعة كان وحيا من السماء.. وتعاملوا مع ما في هذه الكتب علي أنها نصوص مقدسة وفي مخالفتها ترك للنص.. فخلطوا في العقيدة ما بين القرآن المنزل من عند الله - والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - وبين المرويات من الأحاديث المنسوبة للرسول صلي الله عليه وسلم سواء كانت صحيحة أو مكذوبة، والتي هي في الأول وفي الآخر صناعة بشرية ينسحب علي أصحابها الخطأ كما ينسحب عليهم الصواب.. وبرغم اعتراف البعض منهم بظنية الثبوت في الأحاديث و قطعية الثبوت في آيات القرآن، إلاّ أن الغلو في الحب لكل ما يمت بصلة لرسول الله حتي وإن خالف كتاب الله هو الذي أوردهم ذلك المورد.. وقد غاب عن هؤلاء أن المقصود ب "ما ينطق عن الهوي هو إلاّ وحي يوحي" هو القرآن الكريم ذاته وليس كل ما نبس به صلي الله عليه وسلم.. وإلاّ فكيف نفهم قول الله سبحانه وتعالي للرسول عليه الصلاة والسلام: عفا الله عنك لم أذنت لهم، عبس وتولي، لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك، هل يعقل أن الله سبحانه وتعالي هو الذي أوحي للنبي أن يقول ويفعل ذلك ثم يلومه لاحقا؟ مستحيل طبعا، فالحقيقة التي يجب أن ترسخ في الأذهان هي أن النبي صلي الله عليه وسلم قد تعامل في مواقف كثيرة بالقول والفعل كشخص عادي، فالصورة البشرية والتطبيقية التي كان الرسول صلي الله عليه و سلم يمارسها في حياته العادية لم تكن بحال تشريعا موازيا لكتاب الله تعالي، فضلا عن أنه يتبرأ أن تكون سنته مناهضة لكتاب الله ، لكن الذين أرادوا بالأمة ما أرادوا وأدخلوا في الدين ما ليس من الدين كان يستحيل عليهم أن يصلوا إلي مرادهم عبر القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه، ولكن كان لهم ما أرادوا عبر تدوين السنة، ثم ساعدهم في ذلك بعض الحكام الذين تاقوا للخروج علي بعض من النصوص القرآنية فنادوا بما يسمي بالسنة المكملة لأحكام القرآن.. وهل كان القرآن ناقصا؟ أم كان الوحي غير أمين؟؟ أم أن الله قد احتاج معاونة من الرسول في وضع الشرائع؟؟؟.. ولو كانوا يحتجون بآية "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" فالرد بسيط جدا.. هم لم يفرقوا بين شخص الرسول وبين شخص محمد.. فالرسول نحن جميعا مأمورون بطاعته ونزل الأمر بالطاعة له في العديد من الآيات القرآنية لأنه هو الذي يبلغنا بالتنزيل القرآني وهو الذي يعلمنا الحكمة ويسن لنا السنن المحمودة كلها قولا وفعلا وذلك عندما يأمره الله تعالي في مئات الآيات: (ويسألونك قل).. فما معني ذلك؟ أليس معناه ببساطة أن السنة الحقيقية موجودة في القرآن ذاته ويستحيل أن يجيء بعد ذلك حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم مناقضا للقرآن.. دلائل الخرافات الإثنين: أمّا عن دلائل الخرافات فأولها أنه بالرغم من أن القرآن الكريم قد اشتمل علي مئات الآيات التي تخيّر الناس بين الإيمان وبين الكفر ولم يذكر لنا القرآن أن الله سبحانه وتعالي قد فوّض أحدا بإجبار الناس علي الاسلام، إلاّ أن كتب الصحاح تتضمن ما وصف بأنه حديث يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله.. والسؤال: هل نصدق الحديث أم نصدق القرآن؟ وماذا يريد الله من المسلم المكره علي إسلامه؟ أليس الله بغني عن العالمين؟ الخرافة الأخري أن الله كفل في كتابه للناس حرية اتخاذ القرار بشكل مطلق حتي في مسألة العقيدة نفسها (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).. فكيف نصدق بعد ذلك الحديث الذي يقول من خرج علي الحاكم اقتلوه.. لماذا إذن خرجنا علي مبارك وكان حلو وقتها لكن إذا خرجنا علي مرسي مايبقاش حلو.. من بين هذه الخرافات أيضا ما يزعمون بأنه حديث يأمر بقتل المرتد وقد خلا القرآن تماما من أي إشارة لذلك وكان التأكيد من خلال أكثر من آية علي أن الله سبحانه وتعالي هو الذي سيحاسب المرتد في الآخرة.. والحقيقة أن المجال لا يتسع لأكثر من هذه الأمثلة من الترهات ولو أنها كثيرة جدا كحد الرجم علي الزاني والتي ليس لها أي إشارة في القرآن إطلاقا.. وكذلك حد شارب الخمر ولا نعرف من أين جاءوا به.. ثم الطامة الكبري المسماة بالناسخ والمنسوخ وهي السبب في كل هذه البلاوي التي نراها ونسمعها (وتستحق يوميات منفردة).. والخلاصة أن السنة لم تكن أبدا تشريعا يضاهي كتاب الله.. فالسنة في القرآن والقرآن في السنة.