عند الحديث عن أزمة الغلاء ينصرف الحديث دائما إلي التاجر الذي يوضع دائما في قفص الاتهام.. لا جدال علي انه يتحمل جانبا من المسئولية.. لكن المسئولية الأكبر يجب أن تنصرف إلي سياستنا الزراعية.. يظهر ذلك بشكل واضح في ارتفاع أسعار الزيوت في مصر. فهل فكرنا ونحن نتهم التاجر أن نسأل، من أين يأتي هذا الزيت ؟.. الأرقام التي تحملها دراسة للباحث الاقتصادي علاء حسب الله تبدو مفجعة، فمصر يبلغ الاستهلاك السنوي من الزيوت النباتية بها نحو 1.3 مليون طن، ننتج منها حوالي 50 ألف طن معظمها من بذرة القطن، وهناك كمية تقدر بنحو 40 ألف طن تنتج بواسطة مصانع الزيوت المحلية مستخلصة من بذور زيتية مستوردة، وبذلك تكون جملة الإنتاج المحلي حوالي 90 ألف طن تمثل حوالي 7٪ من جملة الاستهلاك، ويتم توفير 93٪ عن طريق الاستيراد من الخارج. ويقول حسب الله : " هذه الأرقام تجعل فاتورة الزيت تساوي مأساة فاتورة القمح.. فمن كان يصدق أن الزيت يقفز سعره من 4 الي 6 ثم الي 01 و21 جنيها. ووفقا للأرقام بلغ جملة استيرادنا من الزيت عام 2004 حوالي مليون طن بمبلغ يقدر ب 556.5 مليون دولار، أي ما يزيد علي ثلاثة مليارات من الجنيهات تضاعفت في أعوام 2007 و 2008 نتيجة ارتفاع الأسعار العالمية لمعظم المواد الغذائية ومن بينها الزيوت النباتية، حيث وصل سعر الزيت عالميا 950 دولارا للطن في عام 2008. الإكتفاء الذاتي 7٪ فقط .. ونهمل الحاصلات القادرة علي زيادة الإنتاج »حب العزيز والكانولا وأجنة الحبوب«.. مصادر زيتية لا نعرف عنها شيئا ما الحل إذن لسد هذه الفجوة؟ الدكتور ممدوح خليفة الأستاذ بمركز البحوث الزراعية، اهتم بهذه القضية عبر العديد من الدراسات التي أجراها، ويقول: إذا كنا نطمح في تقليل سعر الزيوت، فأي حل آخر غير زيادة الإنتاج المحلي، هو تضييع للوقت ". ويؤكد علي ضرورة السعي بجدية لتقليل الفجوة الزيتية للحد الآمن، حيث لابد أن ننتج - من وجهة نظره - حوالي من 20- 25٪ من جملة احتياجاتنا. ويري الأستاذ بمركز البحوث الزراعية ضرورة تشجيع زراعة المحاصيل الزيتية الواعدة مثل عباد الشمس والكانولا لسد فجوة الزيوت النباتية في مصر نظرا لإمكانية زراعتها في أنواع مختلفة من الأراضي الفقيرة والضعيفة والرملية، كذلك تتميز بتحملها للجفاف والملوحة وأيضا ارتفاع محتوي بذورها من الزيت الصحي الآمن والذي يتراوح من 35 -40٪. ويعترف د. ممدوح بأن الأمر ليس سهلا أو بسيطا، مشيرا إلي ضرورة حل المشاكل العديدة في الإنتاج والتسويق التي تجعل الفلاح يحجم عن زراعة هذين المحصولين. وإذا كانت الأمراض النباتية بصفة عامة تعد إحدي أهم المشاكل التي تهدد الثروة الزراعية في العالم، حيث تسبب خسائر كبيرة في الإنتاج الزراعي تبلغ حوالي 25٪ سنويا، أي ما يعادل استهلاك حوالي 600 مليون شخص، فإن هذه المشكلة تبدو أكثر وضوحا مع هذين المحصولين. وتصاب محاصيل عباد الشمس والكانولا بالعديد من الأمراض الهامة مثل أمراض المجموع الجذري ومن أهمها أعفان الجذور والذبول والعفن الفحمي حيث تسبب خسائر في محصول عباد الشمس يتراوح بين 10-60٪ نقصا في محصول البذور ومن 4- 15٪ نقصا في محصول الزيت، بينما تسبب خسائر في محصول الكانولا يتراوح بين 5- 15٪ نقصا في محصول البذور ومن 2- 6٪ نقصا في محصول الزيت. ومن الأمراض الأخري أمراض المجموع الخضري ومن أهمها أمراض تبقعات الأوراق والبياض الذغبي والدقيقي والصدأ الأبيض للكانولا والصدأ وأعفان القرص لعباد الشمس حيث تسبب خسائر في محصول عباد الشمس يتراوح بين 5-30٪ نقصا في محصول البذور ومن 6- 12٪ نقصا في محصول الزيت، بينما تسبب خسائر في محصول الكانولا يتراوح بين 6-40٪ نقصا في محصول البذور ومن 5-20٪ نقصا في محصول الزيت. لذلك، فإن الدكتور ممدوح يطالب بضرورة استنباط أصناف محلية ومستوردة عالية الإنتاجية ومقاومة للأمراض بغرض تحسين إنتاجية هذين المحصولين مع مقاومة أمراضهم للوصول للحد الآمن من الاكتفاء الذاتي من البذور الزيتية. حب العزيز قد تكون مصادر عباد الشمس والكانولا معروفة للمزارعين، ولكن لا يتم استخدامها للمشاكل التي أشار إليها د.حسن، ولكن " حب العزيز " لا يتمتع بنفس القدر من المعرفة، رغم انه هام جدا إذا فكرنا في تقليل فجوة الزيت بالإنتاج المحلي. ويقول د.أحمد خورشيد خبير الصناعات الغذائية : " معرفتنا بحب العزيز في مصر تقتصر علي انه نبات يستخدم في الموالد، حيث يباع للأطفال في بقراطيس- لكن هذا النبات الذي لا يزرع إلا في مناطق محدودة جدا رغم أنه محصول زيتي مهم، يستخدمه كثير من الدول الأوربية، خاصة إسبانيا ". وتبلغ نسبة الزيت في بعض أصناف هذا النبات 30٪ ويتميز بأنه نبات صحراوي لا يحتاج إلي أرض طينية ولا تسميد ويتحمل ملوحة الأرض وقلة الماء، ويتراوح إنتاج الفدان منه بين 1.8 و 3 أطنان. ولكل هذه المزايا يؤكد د.خورشيد أن هذا النبات يمكن أن يساهم بشكل كبير في حل مشكلتنا مع الزيت، خاصة أن نسبة الأراضي الصحراوية بمصر شاسعة جدا. وإلي جانب حب العزيز يطرح خبير الصناعات الغذائية مصدرا آخر وهو الأجنة وهي أعلي مكونات الحبوب غذائيا، وتوجد في القمح والذرة بالجزء الأسفل منها، وفي الأرز تشكل مع قشرة الحبة ما يعرف باسم "رجيع الكون"، ويتم فصل هذه الأجنة من الحبة في مضارب الأرز ومطاحن القمح، وبدلا من أن توجه لصناعة الزيوت يتم التخلص منها أو بيعها لمربي الحيوانات بأثمان بخسة لاستخدامها كعلف للحيوانات، وفي الذرة تبدو المشكلة مع الجزء من المحصول الذي يوجه لصناعة الدقيق، فالجنين يطحن مع باقي مكونات الحبة ليَنتج دقيقٌ به نسبة من الزيوت تكون أحد أسباب عدم جودته إذا تم تخزينه لفترة طويلة، مع أن الدقيق ستكون مواصفاته أفضل إذا فصل عنه الجنين. وتبلغ نسبة الزيوت في جنين الأرز "14 ٪ " بينما تبلغ في الذرة "20 ٪ " وفي القمح من "6 إلي 8٪" وهي نسب يراها د.خورشيد مهمة للمساهمة في حل الأزمة لو وجدت خطة لسد فجوة الزيت في مصر. مشاكل يمكن حلها وإذا كانت هناك مشاكل تواجه استخراج الزيت من الكانولا وعباد الشمس أهمها أمراض النبات، فالطريق أمام المصادر التي اقترحها د. خورشيد ممهد. فعن حب العزيز، يوضح د.خورشيد أن تكنولوجيا استخراج الزيت منه هي ذاتها المستخدمة مع الزيتون، وبالتالي فاستخراجه غير مكلف، ويمكن أن يكون مكملا للزيتون في مصانع إنتاج الزيت، فهذه المصانع نشاطها موسمي مرتبط بموسم الزيتون، لأنه من المحاصيل التي لا تتحمل التخزين، ومن ثم يمكن لها أن تنتجه إلي جانب نشاطها الأساسي في غير مواسم الزيتون. ومواصفات هذا الزيت جيدة، كما يؤكد خبير الصناعات الغذائية، فهو ذو رائحة جميلة مميزة تجمع بين الفانيليا واللوز، ويصلح لكافة استخدامات الزيوت الأخري المعتادة. أما عن أجنة الحبوب، فالأمر يختلف قليلا ، فمع زيت أجنة القمح والذرة يبدو الأمر سهلا وبسيطا، حتي إن الدكتور خورشيد يؤكد أن أي معصرة زيت بدائية تستطيع استخراج الزيت منهما ، لكن المشكلة في زيت جنين الأرز فهو الوحيد الذي يحتاج معاملة خاصة؛ حيث ثبت أنه سريع التزرنخ بسبب وجود بعض الإنزيمات التي تعمل علي أكسدته. ومع ذلك يطالب د.خورشيد بألا تكون هذه المشكلة سببا في إهداره، لأن حلها ممكن، حيث يؤدي تعريض الجنين لمعاملة حرارية عن طريق البخار إلي وقف نشاط هذه الإنزيمات قبل استخراج الزيت. والآن، هل ستجد هذه المصادر طريقا إلي معاصر الزيوت، أم سنظل نحصر المشكلة في التاجر الذي يرفع سعر زجاجة الزيت ؟!!