كان شديد الانفة.. يمشي في كوكبةٍ من عبدانٍ مشيته العمرية.. إن يسقط عن منكبه شق رداءٍ لا يرفعه من طبع كالكبر. صار »ابوحفصٍ« خامس خلفاء رسول الله فكان عليه لزاما ان يتغير.. فتغير. غاب عن الاحداق ثلاث ليال.. لا يعلم احد من امراء امية.. قواد الجيش.. الفقهاء.. رجالات الدولة اين عمر. اين يكون خليفتهم.. وسري بينهم الهاجس.. وتوترات الاقوال المهموسة.. وتحير منهم من لا يتحير. وكما القمر الشاحب في ليلٍ مزدحمٍ بالظلمة مكتظٍ بنثارات الغيم المتراكمة ظهر. ظهر اخيرا.. في عينيه معاناة الساهر.. والارق عيون لا اجفان لها وسهوم وسهر. قلب »عمر« الامر علي أوجهه. واستقرأ ما لم يكتب.. فوق هوامشه بحروف.. واستنبط عَّلته الاولي.. وتفكر. لله الامر جميعا من قبل ومن بعد.. فكيف علي ما لله الملك الحي تجرأ ان يدعي السلطان بشر. ظهر »ابوحفص« ممتقع البشرة.. وعليه قميص وسراويل وقلنسوة وخفاف.. قومها الفاحص بدراهم لا تتجاوز اثني عشر. اين فتي »يثرب« ومنعم »حلوان« تري؟! ذياك الناشيء في النعمة والرغد.. وفي المخمل.. اين نسيم صباه الفاخم والمثقل بالاحلام الوردية؟ والحلم الوردي نسيج من خيطان العطر. كان المكتمل رواء وشذي.. كالنرجسة المزروعة في اصِّيص من مرمر. أين إزار الزهو.. واين التيه المسبوغ عليه عباءة عزٍّ من خزٍّ.. اين عمامته المزدانة بالدرّْ؟! اين الترف السابق اجمعه؟! كان المنتظر وقد صار امير الامراء القابض بالكفين علي مفتاح خزانة بيت المال المملوءة ذهبا ان يتطرف ترفا.. ان يتسنم جبل الانفة.. لكن سبحان الله تغير. أيقن »عمر« المتغير ان الثابت والصمد هو الله تعالي عز وجل.. وان الملك له.. والارض جميعا في قبضته.. اذ يبسطها تبسط.. واذا كورها تتكور. يخلع عن اصبعه خاتمه الذهبي المزدان بفص من ياقوت.. يخلعه وكأن »ابا حفص« يخلع ماضيه ويلبس اخر للايام القادمة حديديا في البنصر لم يك يحمل فصا من ماس.. لكن نقش عليه »ابوحفص« نقشا اكثر القا واشد ضياء »يؤمن بالله عمر«. ما بين الخاتم والخاتم تجربة من كبد.. سار علي جمر حصاها.. وحصاها جمر ملتهب.. وحصاها شوك مسنون وابر. اعتبر »ابوحفص« بالسابق من خلفاء امية.. ماذا اخذوا معهم.. والتاريخ لمن يعتبر عبر. امر »مزاحما« المولي المخلص ان يدعو كل الناس صباحا لصلاة جامعة.. فاجتمع الناس بساح المسجد حتي غص بهم وتطلعت الاحداق إلي المنبر.. صعد علي الدرج الخشبي. ونظر إلي الناس طويلا.. ثم تكلم تحمل نبرته رجفة من يفشي ثمة سرّْ. قال: لقد اعطانا من اعطانا ما لم يكن منبغيا ان يعطيناه.. وإنَّا بالمثل اخذنا ما لم يك منبغيا ان نأخذه.. فكأن المعطي والآخذ كفان جميعما ايسر. ويضيف »ابوحفص« والامراء الامويون يكاد الواحد منهم ان يقع علي الارض كمثل إناء صنع من الفخار فيكسر: ولسوف اكون الباديء ياقوم بنفسي.. كافة ما املكه من ضيعات وقصور وعطور وبساتين وآلات وملابس ادخله بيت المال.. وصار يناول مولاه سجلات قطائعه الواحد بعد الآخر.. يقرؤه ويمزقه والناس تتابعه بذهول.. حتي رفع اذان الظهر. ها هو »عمر« يغادر بعد الخطبة صحن المسجد لمباشرة مهام خلافته المنتظرة تشمير ذراعيه لها. ولقد شمر. وعلي باب المسجد وجد خيولا ومراكب وبراذين وفرسانا ترفل في اردية.. زاهية وأزر.. فيشيح »ابوحفص« عن هذي الابهة وتلك الزينة.. ويصيح: اعدوا لي بغلتي الشهباء.. فإني تكفيني الشهباء لكي اصل لبيتي.. ويفض الموكب.. ويراجعه احد السادة فيصر. وكعادات بني مروان يصفون البسط الغالية لكي يطأ خليفتهم اول ما يطأ جديدا.. حينئذ يركل هذه البسط بساطا بعد بساط حتي يفضي للحصر. يأمر »عمر« ببيع خيول الموكب حتي يكفي بيت المال علوفتها.. وقواها للحرب يوفر. ثم يشير بان يستخدم فتيان الموكب في اعمال اجدي من توكيد الجاه. وانفع من بهرجة المنظر. وزعهم »عمر« علي الامصار لكي يحصوا المحتاجين من العامة.. من تقعده علته عن ان يخرج لصلاة المسجد يشمله الحصر. يذهب بيت المال الاسلامي له في اقصي الارض اذا عوقه الداء وبعد الدار فلم يحضر، قال »ابوحفص« لكبير الشرطة ذاك السائر بين ايادي الخلفاء - تنح لعمرك عني.. فأنا رجل من بعض رجال الامة.. لا اكثر. ولنا في سيرة خامس خلفاء رسول الله بقية.. ان كان لنا باق في العمر.