ليست »الحكاية« ولكنه »الحكي«.. هذا هو الجمال الخالص الذي امسك به الروائي الشاب محمد صلاح العزب في روايته الجديدة »سيدي براني« الصادرة عن دار الشروق.. لا حكاية بعينها، ولا شخصية محددة الملامح والقسمات تواصل مشوارها للنهاية.. لا نهاية، بل ايضا لا بداية.. كل شيء يتداخل ويتقاطع في حركة هي الحياة. »سيدي براني« هي الرواية الرابعة للعزب بعد »سرداب طويل يجبرك سقفه علي الانحناء« و»وقوف متكرر« و»سرير الرجل الايطالي« الصادرة عام 7002، وهو الايقاع الذي سمح لصاحبه بخبرة جمالية وتجربة فنية بدت اكثر نضجا وبراعة. ثمة استقلالية جمالية أو جماليات مستقلة في الرواية، ليست استقلالية »الشكل« عن »المضمون« ولكن قدرة الحكي علي تحرير ذاته واطلاق اقصي طاقة للخيال والكشف عن سر النص.. هذا ما تقوله اللغة ايضا بجمالياتها المستقلة، مفرداتها الدقيقة والموحية، بناؤها، والحكي في فضاء مفتوح منح الكاتب والقاريء ايضا براحا جماليا وحرية مضاعفة. يجلس محمد صلاح العزب في فضاء »سيدني براني« علي حافة الصحراء ممسكا بالرمال الصفراء بين يديه، مستمتعا بانفلاتها من بين الاصابع، بينما يغوص معها في حكاية تبدأ ولا تنتهي. ثلاث عشرة مرة يموت فيها »الجد« لتبدأ الحكاية في كل مرة في مكان مختلف وزمان مختلف وحيوات أخري.. يقول الجد للحفيد الراوي »عليك ان تصنع من كل لحظة حياة كاملة لا تنتهي بالموت، وانما بالحياة«. وهو ما يفعله الحفيد تماما لأن الحكاية هي الحياة، أو »هي الابد« كما يقول الراوي. »سيدي براني« مدينة تقع علي الحدود المصرية الليبية، وهي ايضا اسم أطلق علي الرجل الذي ترك ليبيا هاربا من حب خاسر ليقيم في هذه المنطقة ويحسبه الناس شيخا صوفيا.. بينما يروي الحفيد حكايته المتجددة ثلاث عشرة مرة واكثر. التفاصيل ليست بطلا ولا تشغلنا كثيرا فما تبحث عنه الرواية هناك بعيد وعميق.. المكان »سيدي براني« ليس بطلا لكن الصحراء تفرض حضورها وبراحها.. »الجد« ايضا ليس بطلا للرواية لكن طبيعته الاسطورية تصيغ عالم الرواية بأكملها.. ثم شيء أبعد من التفاصيل واعمق هو سر النص ووهجه. يمزج محمد صلاح العزب الواقعي بالاسطوري أو ربما يمزج الاسطوري بالاسطوري والخيال بالخيال.. ومن متعة الي متعه نبدأ ولا تنتهي هكذا تبدأ فصول الرواية بكلمات الجد »مادمت قد دخلت فلن تخرج« لن يمكننا الخروج بسهولة فالحكايات تتوالد وتتنامي لتصيغ عالما من المتعة.. حكاية الجد أو حكاياته المخترقة حجب الزمان والمكان.. ليس بالامكان الامساك بملامحه ومعرفة قسماته.. غير مسموح الاقتراب منه ومحاورته.. لا عمر له ولا اسم له.. هو فقط روح تملأ المكان بسطوة اسطورية. وهناك حكايات جانبية يحذر الجد حفيده منها »حذار ان تشغلك الحكايات الجانبية« »الخالة طيبة« التي ربت الحفيد يوم ان جاءوا به الي سيدي براني، »الغزالة« التي قامت بإرضاعه »وسمعان« خادم الجد الذي يسمع فقط ليحتشد صمته بكل الحكايات. الحكايات الجانبية هي اكثر انسانية.. اصحابها من لحم ودم وهم اكثر حضورا.. لكن حذار ان تشغلك حكاياتهم.. انهم فقط علامات علي طريق ممتد.. طريق الحكي أو طريق الحياة.