منذ ظهر أدب الخيال العلمي، كانت طاقة مبدعيه من التخيل تسبق الواقع في الزمان والمكان بمساحات هائلة، وكان الصراع مع الزمن محسوما لصالح فضاء الخيال المفتوح بلا حدود، لكن ما قطعه التقدم العلمي من مراحل تلامس حدود الابهار، وكسر منجزات الثورة التكنولوجية للحاجز الوهمي مع أعلي درجات الفانتازيا، جعل مهمة أدباء الخيال العلمي محفوفة بصعاب شديدة! مثلا؛ علي مستوي الزمن الخارق الذي كان إحدي الأدوات السحرية لمبدعي الخيال، كيف يشحذون أقلامهم لمنافسة »الفيمتوثانية« كوحدة للزمن يصعب علي أكثر أصحاب الخيال العلمي مجاراتها؟ علي مستوي المكان - كمثال آخر - وبعد ان استطاعت المراصد القوية ذات المرايا العملاقة، اكتشاف عوالم واكوان بلا حدود، وأكثر اتساعا وعمقا مما انتجه أدب الخيال العلمي عبر كل تاريخه، كيف يكون منتج هذا النوع من الأدب قادرا علي الاستحواذ علي قرائه حين يتناول الحياة علي المريخ؟ زواج العلم والتكنولوجيا، أو ما يطلق عليه »التكنو - علم« جعل الفجوة بين الخيال والواقع تضيق، حتي تكاد تتلاشي، فالقاسم المشترك بينهما - أي العلم - جعل استثارة الدهشة مهمة تحتاج لبذل جهود فائقة تعكس قدرة المبدع علي تصوير انهيار الفاصل بين العلم والتكنولوجيا، عبر سطور ابداعه الادبي. الانسان العادي الذي يطالع في المطبوعات، ويشاهد علي محطات التليفزيون ومواقع الانترنت، ويتابع طفرات جيلية من أجهزة الاتصال، والحاسبات، والروبوتات متعددة الاغراض و.. و... الجمهور النوعي الأكثر اهتماما بالعلم والتكنولوجيا وتطوراتهما المتلاحقة، والمتابع للجديد في علوم كالهندسة الوراثية، وهندسة الأنسجة، والاستنساخ والتزاوج بين مجالات علمية كانت التقسيمات التقليدية تجعل كل منها عالما قائما بذاته، ويتسع المدي ليصل الي زراعة الاعضاء الالكترونية، ثم لا يقتصر طموح العلماء عبر العلوم البحتة والتكنولوجيا التطبيقية ليصبح الانسان الفائق القدرات عبر دعم حواسه وملكاته بخلايا وانسجة هجينة كثمرة للتداخل بين الهندسة الوراثية والاعضاء الالكترونية و.. و... كيف يُثمن الجمهور الواقع بنكهة الخيال العلمي؟ إن تجسيد أدب الخيال العلمي لكائنات تحلق في عالم الوجود »ما بعد الانساني« يصبح- عندئذ- بمثابة شكل من أشكال الاستخاف بالمتلقي! هل يعني ذلك أن الواقع علي وشك ان ينافس الخيال العلمي؟وهل الاقتراب من الزمن الذي تكون الاجابة فيه ب »نعم« يعني ان هذا النوع من الأدب يمكن ان يختفي من فوق الخريطة الابداعية؟! رغم صعوبة التحدي، إلا ان خيال المبدع سوف يبتكر من الحيل ما يقود الي تطوير أدواته وقدراته وتكنيكاته، وربما يصبح عليه ان ينسج علاقة جدلية مختلفة عن كل ما مضي بين الخيال والواقع. وقد يكون علي مبدع الخيال العلمي اعادة ترتيب أولوياته، بالهبوط من الفضاء، والتحليق بين الكواكب البعيدة، والذهاب لأزمان تفصلنا عنها سنوات ضوئية، الي توظيف الخيال المشحون بالعلم في السعي لتغيير الواقع الي آفاق أفضل. وربما يكون استدعاء واقعة شهدها الكونجرس الأمريكي منذ سنوات، كاشفة لهذا المعني، فقد دعت احدي لجان الكونجرس المعنية بالتطور التكنولوجي أحد كُتاب الخيال العلمي ليحاضر حول مستقبل صناعة المعلومات بينما كانت اللجنة معنية برسم اطار سياسة جديدة في نظم الاتصالات. الخيال العلمي مرشح - اذن - لينزل من عليائه ملتحما بالواقع، وليس منافسا له، فاتحا آفاقا جديدة في العديد من مجالات المعرفة، ومُعمقا لعلاقة ثلاثية اضلاعها: العلم، التكنولوجيا، الأدب.