أكثر الأشياء إساءة في قضية الخلاف بين جارة القمر مطربتنا الرائعة فيروز وبين أبناء أخي زوجها منصور الرحباني هو أن ينزلق أنصار الطرفين إلي ما يسئ لهذه الظاهرة الفنية النبيلة التي أعطت للموسيقي العربية و الغناء العربي الكثير. الخلاف بين الطرفين قديم، ولكنه يخرج الآن إلي حدود الإساءة والتجريح فنجد من يتبرع بأن يسئ للأخوين رحباني بالحديث عن أن فيروز هي التي أعطت القيمة لإبداعهما، وعلي الطرف الآخر من يتحدث بأن فيروز ما كان يمكن أن تجد مكاناً علي الخريطة الفنية لولا الرحبانية !! وكل طرف لا يعرف أنه يسئ للجميع وللظاهرة الفنية التي ينبغي أن نحتفظ لها بكل التقدير والاحترام، حتي لو اختلف الورثة علي الحقوق المادية، وهو اختلاف كان من السهل حله لو احترم الجميع القانون وحافظوا علي المودة.. وهو ما فعله الآباء (عاصي ومنصور الرحباني) وما فعلته فيروز حتي رحل الشقيقان و بقيت فيروز تشهد علي خلافات أبناء العم وتعاني منها!! لقد كان الأخوان رحباني وفيروز رفاق درب طويل، بدأوه من الصفر، فقراء مجهولين، وواصلوا السير فيه حتي القمة. وخلال مسيرتهم ارتبط عاصي بفيروز وفي عز المجد بدأت الشقاقات وانفصل الزوجان عاصي وفيروز، ثم رحل عاصي، وبدأت الخلافات مع منصور، ولكنها استمرت محكومة بما ينبغي من حدود لهذه الخلافات حتي رحل منصور، وبدأ صراع الأبناء الذي نرجو ألا ينال من المكانة التي وضع العرب جميعاً ظاهرة فيروز و الرحبانيه فيها. أن يتعلموا من خلافات السابقين (وما أكثرها) أن كل شئ زائل في قضاياهم المتبادلة ولن يبقي إلا الميراث الفني الجميل الذي ينبغي أن يحافظ الجميع عليه، وأن تكون مساعدتنا لهم هي بالحفاظ علي حقوق كل الأطراف ومساعدتهم في عبور الأزمة، لكي تستمر فيروز في العطاء في أجواء مواتية، ولكي ينصرف الجهد في الحفاظ علي التراث الجميل وليس تبديده في الخلافات و تشويهه بالإساءة لأصحابه. الخلافات بين الورثة ليست ظاهرة جديدة بعد أن أصبحت حقوق الملكية الفنية والأدبية قانوناً يجب الخضوع له. وقد كافح المؤلفون والملحنون في مصر أولا ثم في العالم العربي طويلاً حتي تم الإقرار بهذه الحقوق و صدرت القوانين الخاصة بذلك، ولكنها حتي الآن مازالت بعيدة عن إعطاء الحقوق الكاملة للمبدعين، سواء بعدم تطبيق القوانين بدقة في بعض البلاد العربية، أو بعدم وجودها من الأصل في دول أخري، أو بعقود الإذعان التي يفرضها المنتجون علي المبدعين ليسلبوهم حقوقهم. وبالتالي فالعائد وحقوق الملكية قليل من الأصل. سواء كان ذلك للمبدع الأصلي أو لورثته من بعده، والخلافات لا يتم الحسم فيها بسرعة، والحماية المطلوبة للإبداع ضعيفة، والقوانين في حاجة للتفعيل وللاحترام .. ولو حدث ذلك لما كانت هناك مشاكل كالتي نراها بين فيروز وورثة منصور الرحباني في لبنان والتي تركز الأضواء عليها الآن كعنوان لآلاف المشاكل من هذا النوع. وقد كان المؤلف والملحن هما الطرفان الأضعف في المعادلة الغنائية عندنا وعند العالم كله، وكان الثراء والنجومية للمطربين والمطربات وحدهم. ولهذا جاءت قوانين حقوق الملكية لتحمي حقوق المؤلفين والملحنين و لتعطيهم حقوقاً عن استغلال ما يبدعونه لمدة خمسين عاما، لهم أو لورثتهم.. وهكذا يصبح هناك نوع من العدالة فيكسب المطرب في سنوات نجوميته من الأجر الكبير الذي يتقاضاه، ولكنه لن يأخذ شيئاً علي إذاعة أغانيه أو إعادة غنائها، بينما يأخذ الملحن والمؤلف هذا الحق. والوحيدة التي تم استثناؤها من المنظمة الدولية من هذه القواعد هي سيدة الغناء العربي أم كلثوم التي تعامل بوصفها "مبدعة" وليست فقط مطربة، ولهذا تقاضت حق الأداء العلني عن أغانيها ومازال ورثتها يتقاضون حقوقهم حتي الآن. وفي قضية فيروز تم إلغاء عرض كان مقرراً لعرض إحدي المسرحيات الغنائية التي أبدعها الأخوان رحباني، لأن القانون يشترط موافقة المؤلف و الملحن أو ورثتهما علي العرض، وهو ما لم يتحقق بسبب خلافات أبناء العم من ورثة الرحبانية . وهو أمر مؤسف بلا شك خاصة أن ما بقي من عمر وجهد يجعل من قيام السيدة فيروز بإعادة عرض المسرحية الغنائية حدثاً ينبغي الاحتفاء به. كما أن أي مقابل مادي تتقاضاه هو أقل مما تستحق، ولكن ذلك لا يسقط حق الورثة من أبناء منصور كما أبناء فيروز في تقاضي ما يستحقونه كمقابل حقوق الملكية. وقد كان التعامل مع الأمر يمكن أن يكون يسيراً لولا تراكم المشاكل بين الورثة ، كما أنه مازال قابلاً للحل لو أخلص الجميع لإبداع الآباء، ولو خضع الجميع لصوت العقل ، أو تم إخضاعهم بالقانون أو بالواجب ، بحيث يكون هناك من يتم التوافق عليه لكي ينوب عن الأسرة في التعاقد مع الهيئات و المؤسسات الفنية، ولكي يكون مفوضاً بالحفاظ علي حقوق الجميع في هذه العقود. الحلول سهلة، ولكن المهم أن نحافظ علي صورة الرحبانية وفيروز الجميلة، وأن تستمر فيروز في نشاطها دون عقبات، وأن يأخذ الجميع حقوقهم بلا تعقيدات. ولا شك أن الحل الودي أو الذي يتم التوافق عليه هو الأفضل ، فطريق القانون طويل ومعقد، ولا أحد يضمن أن يجد قاضياً مثل الذي تولي قبل أكثر من نصف قرن النزاع بين الشيخ زكريا أحمد من ناحية وأم كلثوم والإذاعة المصرية من ناحية أخري، وقد استمر النزاع سنوات، حتي جاء القاضي المحترم المحب للفن واخذ أطراف النزاع إلي غرفة المداولة ليقول لهم إن كل أموال الدنيا لا تساوي حرمان الملايين من لقاء ألحان الشيخ زكريا مع صوت أم كلثوم، وانه لا يريد أن تضيع سنوات أخري في أروقة المحاكم. ثم يعرض عليهم حلاً ودياً رأي أنه يحقق مصلحة الجميع ، ويوافق الجميع و كأنهم كانوا ينتظرون هذا الحل، ويعود صوت أم كلثوم يعانق ألحان زكريا أحمد في آخر ألحانه "هوه صحيح الهوي غلاب" ثم يرحل إلي جوار ربه بعد أن أدركنا ومعنا أم كلثوم نفسها - حجم الخسارة في سنوات الخصومة. وربما لهذا لم يستمر خلافها مع السنباطي بعد ذلك إلا شهورا قليلة، عاد الاثنان بعدها ليواصلا معا عطاءهما الجميل. أما عبد الحليم حافظ والموجي فلم يصل الخلاف بينهما لشيء من ذلك. فقط غضب الموجي لأن عبد الحليم لم يقف إلي جواره حين طلب ما رأي أنه الأجر المناسب لألحانه من المنتجين . واستمر الخلاف للأسف الشديد - لسنوات كانت - في تقديري الشخصي ، هي الأضعف في مسيرة عبد الحليم، وعندما عاد عبد الحليم للموجي أحسسنا بحجم ما خسره الغناء العربي في سنوات الخصومة حين قدم الاثنان بعد المصالحة روائعهما "رسالة من تحت الماء" و "يا مالكا قلبي" و"قارئة الفنجان" التي اختتم بها حليم حياته كما بدأها مع ألحان توأمه الفني الموجي. الوضع مع فيروز يختلف.. فقد رحل الرحبانية، ومع ذلك فكم هو جميل أن يعود مسرحهما الغنائي الذي كان دائما دعوة للخير والجمال والحرية ليتصدر المشهد، كم هو جميل أن تطل فيروز من جديد تتحدي الزمن و تتحدي الصعاب وتسعد الملايين . وكم هو جميل ان يقدم لنا الورثة و فيروز معاً درساً جديداً يحفظون فيه حقوقهم، ولكن أيضا يحفظون للفن قدسيته، وللظاهرة الفنية التي أمتعتنا علي مر السنين مكانتها بعيداً عن المهاترات، وللملايين التي اشتاقت لفيروز علي المسرح تسعد بها وبالرحبانية معا!!