لم يخبرني محمد عفيفي مطر أنه سيموت في ذلك اليوم الذي رحل فيه. بل حتي لم يخبرني أنه دخل المستشفي قبل رحيله بعدة أيام. أخذت علي خاطري منه عندما قرأت خبر رحيله في الصحيفة مثل باقي القراء. هذه أول مرة لا يخبرني فيها بدخوله المستشفي. كيف له أن يموت دون أن أودعه؟ هل نسي إهداءه الذي كتبه لي بخط يده الجميل علي أحد دواوينه وفيه: »منحتني آية الصداقة النبيلة وكرم الأخوة، فتقبل اخوتي وحبي الأعمق«. علي كل حال ليس هذا وقت الحساب بيننا. لم يحدث ذلك مثلا مع كثير من أصدقائي الذين منحوني فرصة توديعهم قبل رحيلهم، مثل محمد مستجاب بعدما دخل مستشفي قصر العيني المشهور بالفرنساوي قبيل بضعة أيام من وفاته. مازلت أذكر ضحكته المميزة المتقطعة بلهجته الصعيدية من وجهه الأسمر العريض. إنه بلدياتي من محافظة أسيوط. هو من ديروط وأنا من منفلوط. ربما كان يحس أنه سيموت في اليوم التالي، ولقد شعرت بذلك. لذا اعتبرت أنه طلب رؤيتي ليودعني. هكذا تكون العلاقة بين الأصدقاء الأحباء. فكيف فعلها محمد عفيفي مطر ومات دون أن يودعني؟ لا أملك الآن إلا أن أسامحه. عندما أعتب عليه فعندي حق. كنت أتابع حالته الصحية منذ اكتشف إصابته بالتهاب الكبد فيروس »سي«. وتردده علي المشافي وعيادات الأطباء. حتي جلسات العلاج الطبيعي من آلام العظم. كان محمد شامخا في مرضه شموخه في صحته. لا يشكو ولا يظهر ألمه. يمشي بين الناس وكأنه صحيح معافي. قرر بعد عودته من إقامته في العراق أن يستقر في قريته. وتفرغ لفلاحة أرضه بنفسه والكتابة. هو فلاح ابن فلاح. وفيه كل الصفات الطيبة للفلاحين المصريين. كان يهاتفني بين الحين والآخر من قريته " رملة الأنجب " بمحافظة المنوفية. وأتصور أن قريته كانت تخبئ اسمها له. كان كثيرا ما يخبرني مسبقا بموعد وصوله إلي القاهرة. ولكنه أحيانا يفاجئني بمهاتفتي من القاهرة حيث كان يقيم في شقة علي نفق الملك الصالح في حي مصر القديمة. كان يأتي إلي القاهرة للعلاج أو للقاء عدد قليل من الأصدقاء في بعض مقاهي وسط البلد أو في أتيليه القاهرة. كان يأتي أحيانا مرتديا الجلباب. هو يعتز بصوره في هذا الرداء المصري الأصيل. ولكنه لم يرتبط به علي العكس من ارتباط مستجاب بجلبابه الأبيض الدائم الواسع. كان لنا صديق مشترك قريب من كلينا. قصاص وناقد أدبي حقيقي رفيع المستوي اسمه سعد الدين حسن. يعيش في ظروف قاسية تجبره كثيرا علي الاحتماء بجدران منزله الصغير وجدران شوارع سكة سيرج في طنطا. هو نموذج معبر عن الواقع الثقافي المصري في ربع القرن الأخير والذي أبحث له عن صفة محددة فتختلط عليه الصفات السيئة. كنا كلما التقينا سألته عن أحوال سعد الذي لو احتضنته الدولة لكسبت واحدا من أهم النقاد. آخر مرة رأيت عفيفي فيها كانت في الاتيليه عندما شاركت في ندوة في مارس الماضي عن جماعة الفن والحرية السريالية بمناسبة مرور 70 عاما علي مولدها. كان عاديا ولم يبد عليه تغير كبير في حالته الصحية. كان لقاء سريعا لم يحمل أي إنذار بسرعة اختفائه. كان كلانا حريصا علي الاطمئنان علي الآخر ومعرفة أخباره. جاء خصيصا من قريته ليحضر فرح ياسمينة ابنتي. كان يحبها وأهدي لها وهي صغيرة كتبه التي كتبها للأطفال. كان إنسانا كبيرا يحب الناس وبخاصة الأطفال منهم. لم يكن عفيفي جماهيريا. لم يحب بهرجة الإعلام وضوضاءه. كان يعيش للقيمة الحقيقية وليس لزيف المظاهر. يعيشها في حياته البسيطة ويعبر عنها في كتاباته العميقة. مثلما كان فريدا في شعره. حفر لنفسه طريقه الشعري مميزا في العالمين. كان شاعرا مثقفا بحق، ينعكس علي شعره ثراء معرفي عريض من آداب وعلوم شتي. أظهرها التاريخ وبخاصة الفرعوني، حتي الزراعة، وأولا الفلسفة التي أحبها، وتخصص في دراستها لرؤية ما بالداخل. يبدو ذلك واضحا ابتداء من عناوين دواوينه مثل »احتفالات المومياء المتوحشة« و»أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت« و»يتحدث الطمي«. لم يكن يهتم بسطوح الأشياء. لذا اعتبره كثير من الكتاب شاعرا صعبا، واستعصي شعره علي البسطاء من الشعراء أو المتشاعرين. لكنه أصبح علامة في تاريخ الشعر العربي الحديث. أعرف محمد عفيفي مطر منذ سنة 1969. كنت طالبا في السنة الثالثة الثانوية وكان هو شاعر شاب أكبر مني بالطبع. كان قد تخرج في الجامعة ونشر ديوانه الأول »من دفتر الصمت« في دمشق! ثم بدأ ينشر قصائده ويُعرف في أوساط الشعراء. بينما كنت أنا مشروع شاعر. التقينا في مدينة الزقازيق أثناء إقامة المؤتمر الأول، والأخير، للأدباء الشبان الذي عقدته منظمة الشباب الاشتراكي في ذلك الوقت. كان عفيفي قد أصدر مغامرة أدبية جميلة لم تُعمر مثلما لم تعمر كل المغامرات الجميلة. فلا يعمر سوي الأعمال التجارية التي يعرف صانعوها من أين تؤكل الكتف. هم يأكلون أكتافنا ويصدرون مشاريعهم التجارية الفاسدة المفسدة. وإن لم يكن فيصدروا أعمالا ثقيلة الظل بفلوسهم. اصدر عفيفي العدد الأول من مجلة »سنابل« الرائدة المتميزة بمناسبة انعقاد هذا المؤتمر ولم تستمر أكثر من ثلاث سنوات. آزره فيها الشعراء الشبان لهذه المرحلة الخصبة في تاريخ الثقافة المصرية رغم كل مشاكلها السياسية ورغماً عن أنف من ارتدوا عنها وسبوها من الأدباء الكبار. وأتمني لو اهتم أحد بجمع أعداد هذه المجلة وإعادة نشرها اليوم لأمكننا إلقاء نظرة علي جانب مهم من الواقع الأدبي لذاك الزمان. عرفت عفيفي وعرفني ونسينا ما عرفناه بعد المؤتمر. كان الوقت قصيرا وزحام الإبداع والمبدعين كبيرا ولا زحام مرور القاهرة هذه الأيام. فضلا عن اغتراب كلينا عن مصر في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. هو ذهب الي العراق وأنا الي باريس. رجعت الي مصر قبله، وبعدما عاد من تغريبته العراقية عدنا لنعرف بعضنا من جديد مع بدايات العقد الأخير من القرن المنصرم. اشعر بالفخار بسبب مشاركتي في إصدار أعماله الشعرية الكاملة من دار الشروق في عام 1998. هو الشاعر الوحيد الذي فعلت معه هذا. كلمت صديقي إبراهيم المعلم صاحب الدار وعرضت عليه أن يطبع أعمال محمد عفيفي مطر الشعرية الكاملة مقابل أن يغطي صندوق التنمية الثقافية الذي كنت أديره تكاليف الطباعة بشراء عدد معين من النسخ. كان هذا طبيعيا لأن الصندوق في ذلك الوقت كان من أهم الموارد المالية لكثير من دور النشر المصرية. قام الصندوق طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين بأوسع حركة إنشاء للمكتبات العامة في مصر. أنشأ الصندوق مكتبة القاهرة الكبري في الزمالك. وشارك مع جمعية الرعاية المتكاملة ومؤسسة برتلسمان الالمانية في إنشاء مكتبة مبارك العامة في الجيزة. ومن يزر المكتبتين اليوم يعرف عم أتحدث بالضبط. وأنشأ الصندوق عشرات المكتبات في القري المصرية ضمن مشروع مكتبة القرية، وقد تحدثت عنه في هذا المكان نفسه منذ بضع سنوات. لذا من السهل تصور كميات الكتب التي اشتراها الصندوق من دور النشر لتزويد كل هذه المكتبات. وكانت سياستي في الصندوق هي دعم القطاع الخاص في مجالات الإنتاج الثقافي الراقي. لأن هذه هي التنمية الثقافية الحقيقية. لا يجب أن تحتكر الدولة التنمية الثقافية، بل عليها تشجيع كل مؤسسات المجتمع الخاص والأهلي للمشاركة في هذه التنمية بقوة. آسف للخروج عن الموضوع، وهو محمد عفيفي مطر. هذا الشاعر العبقري والإنسان النادر. الذي نحتاج لإعادة معرفته ودراسته والاستفادة من إبداعه حيث إننا لم نفعل بعد. وأنا لا أكتب عنه هنا لأرثيه. فهذا مقال في عتاب الأحباب.