على حدود محفوفة بالألغاز وتخوم تقع مابين الحقيقة والأسطورة وعلى ايقاع رقص مئات السحرة فى الملعب الذى سيستضيف حفل افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم-يتردد السؤال المركب المثير للفضول والداعى لفتح هذا الملف: "هل بدأ السحر قبل أن يبدأ المونديال..وماعلاقة السحر بكرة القدم ..وماذا عن السحر فى جنوب افريقيا والقارة السمراء..وهل الظاهرة افريقية فحسب"؟!. وكانت تقارير قد افادت مؤخرا أن جماعة تطلق على نفسها اسم "منظمة لمعالجين التقليديين" قامت بذبح ثور أمام ملعب "سوكر سيتى" فى جوهانسبرج وهو الملعب الذى سيشهد حفل افتتاح المونديال وختامه فيما ذهبت هذه الجماعة الى أن سبب إقدامها على هذا التصرف هو "مباركة البطولة العالمية وتعريف الأسلاف بأن العالم يتوافد على جنوب افريقيا". وحسب هذه التقارير فان نحو 300 من السحرة استدعوا أرواح الأسلاف والتمسوا منهم أن تنعم جنوب افريقيا بمونديال جيد. وفى جنوب افريقيا يتفق أغلب النقاد الرياضيين على أن مسألة ممارسة السحر فى الملاعب هى مسألة متصلة بسياق يتضمن الرموز والمعتقدات والطقوس الروحية فيما تبدو الظاهرة من وجهة النظر الغربية متصلة بمشاهد عجائبية فى افريقيا. وواقع الحال أن كلمة "السحر" ذاتها لها مفاهيم متعددة ومعان قد تتضارب لتثير الالتباس..ففى بلد مثل جنوب افريقيا كان المستوطنون الغربيون يتهمون المقاومين من السكان الأصليين بتهمة السحر وقام بعضهم بترويج قصص حول مايسمى "بالسحر الأسود" ليكون الهدف "شيطنة المقاومة" فاذا بالمقاومين للاستيطان الاحتلالى العنصرى يتجولون حسب هذه الصورة الذهنية المصنوعة الى "سحرة اشرار". غير أن السكان الأصليين لجنوب افريقيا يستخدمون كلمة "ساحر" كصفة لأى شخص يوصف بأنه يتمتع بقدرات خارقة للمعتاد وخارجة على الناموس المتعارف عليه وقد لايدرك بعض هؤلاء "السحرة" انهم يمتلكون هذه القدرات الخارقة وهم ببساطة لم يتعلموا السحر. وفى مقابل "الساحر الشرير" الذى ينظر له باعتباره مصدر أذى للأخرين عبر سبل خارقة للطبيعة فان هناك "الساحر الطبيب" ويدل فى الثقافة الجنوب افريقية على ذلك الشخص الذى يتمتع بقدرات روحية مضادة للساحر الشرير. وفى كرة القدم بات المسؤولون فى القارة السمراء أقل تسامحا حيال مسألة ممارسة السحر فى الملاعب وعمد الاتحاد الأفريقى لكرة القدم "الكاف" لاتخاذ اجراءات مشددة لمنع السحرة من السفر مع الفرق المشارقة فى البطولات الأفريقية. ويقول مسؤولون فى "الكاف" أن "الأيام التى كان يوجد فيها مايسمى بالأطباء السحرة داخل غرف مغلقة اثناء بطولات كأس الأمم الأفريقية قد ولت الى غير رجعة" غير أن الفيفا من المعنيين بقضايا الثقافات الافريقية يؤكدون فى المقابل أن الأمر ليس بهذه السهولة ولايمكن القضاء على ظاهرة متجذرة فى الثقافة بجرة قلم. وابان نظام الفصل العنصرى فى جنوب افريقيا- ادت الالتباسات وعدم القدرة على التمييز بين السحرة الأشرار والسحرة الأطباء الى صدور مرسوم فى عام 1957 يحظر ممارسات هاتين الفئتين معا دون ان يلتفت لمدى عمق المسألة وارتباطها بالثقافات المحلية او يفرق بين مايعرف بالطب الروحى والعلاج الشعبى وبين السحر الأسود والأذى ومن ثم لم يكن هذا المرسوم الحكومى قادرا على تغيير الواقع. ويقول ماسوزى سيميلان رئيس مجلس الرياضة والثقافة فى سوازيلاند أن الاكتفاء بحظر رسمى على ممارسات السحرة لن يكفى أبدا وسيكون نوعا من خداع النفس مضيفا أن "التيايانجا" وهو المسمى الأفريقى للمعالجين التقليديين قضية ذات ابعاد رياضية وثقافية معا. ويوضح هذا المسؤول الأفريقى رؤيته بقوله:"أن اللاعبين على المستطيل الأخضر يشعرون بأنهم أفضل حالا عندما يحظون بمباركة وحماية ارواح الأسلاف" بينما يذهب اموس بفومو وهو معالج تقليدى فى مابوتو عاصمة موزمبيق الى ان هناك العديد من الطرق التى يمكن بها للمعالج التقليدى تقديم المساعدة المشروعة للاعبى كرة القدم "فالأعشاب على سبيل المثال تجعل اداء لللاعب افضل اما ارواح الأسلاف فتمنحه القوة والمؤازرة"، وفى الطقوس السحرية المعروفة "بالكيوسينيسيا"-يقوم بفومو بتقديم العلاج للاعب كرة القدم فى صورة مزيج يجمع مابين الوصفات الطبية الشعبية والجلسات الروحانية ويقول ان "ارواح الأسلاف ترشد اللاعب وتجعله يبذل قصارى جهده فى الملعب..ان الاسلاف يغمرها السرور عندما يطلب منها شىء على النحو الصخيخ وبالأسلوب اللائق وتقوم بارشاد والهام اللاعبين اثناء المباريات ". أما بونجانى مونجوميزيلو المدير الفنى لفريق "بلاك مامباس" الذى يقع مقره على مشارف مدينة دوربان بجنوب افريقيا فيقول إن العديد من مدربى كرة القدم لديهم مشاعر مختلفة بشأن أرواح الأسلاف ونحن نستعين هنا بالمعالجين التقليديين والروحانيين لمنح المزيد من القوة النفسية والعزيمة للاعبينا. غير أن المشكلة تكمن فى تحول أمور مقبولة ويمكن تفهمها كالطب الشعبى والعلاج التقليدى والروخانى الى ممارسات سخرية شريرة تعرف "بالسحر الأسود" وهى ممارسات يستهجنها النقاد والكتاب فى جنوب افريقيا ويعتبرونها مسؤولة عن استشراء ظاهرة العنف والأعمال الانتقامية. ومع استشراء ظاهرة اللجوء للعنف ضد الأشخاص الذين يعتقد انهم ينتمون لما يسمى بالسحرة الأشرار تقرر فى عام 1996 تأسيس لجنة رسمية للتحقيق وكشفت هذه اللجنة التابعة لوزارة الداخلية عن ان الاف الأشخاص اتهموا بممارسة السحر فى الاقليم الشمالى وجرى مطاردتهم بل ونهب ممتلكاتهم من جانب السكان الغاضبين من شرور السحر والسحرة. ومضى التقرير الرسمى ليؤكد على ان اكثر من 300 شخص قتلوا من جانب جماهير غاضبة من استشراء الممارسات الشريرة للسحرة بين عامى 1985 و1995 فيما اتهم بعض السكان فى اقوالهم امام للجنة التحقيقات التابعة لوزارة الأمن رهطا من هؤلاء السحرة بتغيير صورهم وهيئاتهم والتحول من بشر الى وطاويط وخفافيش وطيور وان بعض ضحايا السحرة تحولوا الى مسخ بشرى واشياء اقرب "للخشب المسندة". وكان من الطريف ان تقام عشرة مزارع فى الاقليم الشمالى بجنوب افريقيا كأ ماكن احتجاز لمئات السحرة الذين ادينوا من جانب محاكم عرفية تعرف "بمحاكم الكانجارو" واعتبروا من السحرة الأشرار فيما استقر الرأى على احتجازهم بهذه المزارع خشية خوفا من الفتك بهم من جانب الجموع الغاضبة. وفى عالم الساحرة المستديرة بجنوب افريقيا - تقوم بعض الفرق لذبح الماعز على الخطوط الخارجية للملعب كقربان للأسلاف قبل المباريات ثم يعمد البعض لرش المنطقة التى سيدخل منها الفريق المنافس بالدماء ومرارة الماعز مع القاء بعض التعاويذ والطلاسم السحرية فاذا بلاعبى الفريق المنافس يعتقدون ان منافسيهم سحروا لهم وقاموا بممارسات سحر اسود قد تؤدى لكسر ارجلهم لاصابتهم بالعمى حتى لايروا الكرة فى الملعب!. وفى بلد أفريقى اخر هو الكونغو- اكد مرصد لحقوق الانسان مؤخرا أن أكثر من 60 شخصا حرقوا او دفنوا احياء منذ العقد الأخير فى القرن المنصرم بسبب اتهامات تعرض لها هؤلاء الأشخاص حتى من جانب افراد عائلاتهم باقتراف اعمال السحر. وخارج القارة السمراء كلها وبالتحديد فى الهند مزقت خمس سيدات اربا اربا يوم التاسع والعشرين من شهر يوليو عام 2002 بعد ان اكد سكان فى ولاية جالبايجورى انهن ضالعات فى اعمال السحر فيما كشفت تقديرات رسمية عن ان اكثر من 700 امرأة قتلن فى شرق الهند بين عامى 2001 و2006 لاتهامات نسبت لهن بالتورط فى ممارسات السحر الأسود. ولأنها معضلة افريقية وظاهرة عالمية فقد عقد فى السابع من شهر سبتمبر عام 1998 مؤتمرا فى "ثوهو ياندو" بجنوب افريقيا حضره نحو 200 شخصية من المسؤولين وكبار ضباط الشرطة لبحث سبل كبح جماح ممارسات السحرة التى تؤدى للموت وتثير ردود افعال انتقامية وتحدث مسؤولون فى هذا المؤتمر بالأرقام عن مقتل 97 سيدة و46 رجلا اتهموا بممارسة السحر الأسود وطاردتهم الجماهير الغاضبة حتى الموت. وطالت الاتهامات المرأة على وجه الخصوص وراجت القصص فى جنوب افريقيا عن الساحرات الشريرات وتظهر أوراق أرشيف الشرطة ووثائق المحفوظات الأمنية أن الأقليم الشمالى يعانى بشدة من ظاهرة "المرأة الساحرة" فيما كانت الأشهر الستة الأولى من عام 1998 قد شهدت 386 جريمة قتل وتخريب ممتلكات وضرب مبرح لنساء اتهمن فى هذا الاقليم بأنهن "ساحرات شريرات" وافادت هذه الاوراق الرسمية ان المتهمات بالسحر هن من السيدات اللاتى تتراوح اعمارهن مابين 55 عاما و72 عاما. وحسب أقاويل تقع على التخوم مابين الحقيقة والخيال فان أغلب الأعمال الانتقامية تحدث فى موسم الأمطار بجنوب افريقيا حيث يتهم السحرة بتحويل صواعق السماء والبرق والرعد نحو الأشخاص الراغبين فى تدميرهم فيما لايتردد هؤلاء السحرة فى الرد على الراغبين فى الانتقام بأبشع الوسائل من باب الدفاع عن النفس. والمأساة حقا أن البعض يتهم ظلما بالسحر وقد يتعرض للقتل بسبب دوافع كيدية وعوامل سياسية أو حتى خلافات شخصية فيما تبذل حكومة جنوب افريقيا منذ سقوط نظام الفصل العنصرى جهودا حثيثة لمعالجة هذه المعضلة واقناع المواطنين بخطورة الانغماس فى اعمال وممارسات السحر. وحسب تقرير رسمى صدر مؤخرا فى بريتوريا فان العقد الأول من القرن الحالى يشهد بالفعل تراجعا فى ممارسات السحر الأمر الذى ادى تلقائيا لانخفاض كبير فى معدلات الجرائم المرتبطة بالسحرة. واذا كان السحرة قد رقصوا وغنوا على ملعب سوكر سيتى الذى سيشهد حفل افتتاح المونديال وحفل الختام وطلبوا من الاسلاف مباركة العرس الكروى العالمى فان عشاق الساحرة المستديرة فى كل مكان بهذه الدنيا الواسعة لايهمهم سوى سحرها الذى يأخذ الالباب ويخطف الانظار الشاخصة للمستطيل الأخضر!.