الثلاثاء 19 ديسمبر: في ميدان من أجمل الميادين في مدينة جوياكيل اسمه لاروتندا كانت لنا وقفة طويلة.. فإلي هنا يحج كل زوار المدينة القادمين من مختلف دول أمريكا الجنوبية لتسجيل آلاف الصور أمام النصب التذكاري الكبير الذي يشير إلي تحرير القارة الجنوبية من الاحتلال الأسباني.. وفي هذا الميدان سمعنا حكاية شعب الإنكا(Inca) الذي امتد تاريخه335 سنة( من سنة1200 إلي1535) عندما تمكن الإسبان من القضاء عليه في نهاية درامية تفوق نهايات الأفلام. وهذا الشعب يعود إلي الهنود سكان البلاد الأصليين الذين كانوا موزعين في ذلك الوقت في المنطقة من كولومبيا إلي الأرجنتين مرورا ببيرو وإكوادور ويعيشون في جبال الأنديز الممتدة بطول القارة يمارسون عاداتهم القديمة المتوارثة بعيدا عن المدينة وإن صنعوا حضارتهم الخاصة التي لها طابعها الفني والثقافي. ولم يشتهر هذا الشعب إلا بعد أن برز منهم قائد اسمه إنكا تمكن من جمعهم وتوحيدهم في امبراطورية كبيرة مركزها في بيرو وكون منهم جيشا قويا من المحاربين. وقد نظم إنكا صفوفهم حتي أصبحوا معروفين باسم امبراطورهم إنكا الذي جعلوا له قداسة خاصة.. وفوق قمم الجبال أقام شعب الإنكا معظم بيوتهم ومعابدهم من أحجار ثقيلة يزن الحجر الواحد أكثر من طن. وكان من أهم بناياتهم التي أقاموها ما عرف باسم ماشو بيشو(MachuPicchu) وهي مدينة أو قلعة تتجلي عبقريتها في أنهم أقاموها من الأحجار علي مساحة31 كيلو مترا مربعا بين قمتين ترتفعان أكثر من2800 متر فوق سطح البحر ولها درجات حجرية لبلوغها تبلغ3000 درجة. وبسبب الموقع الخفي لم ير من ينظر إلي قمتي الجبل المدينة التي ظلت مجهولة حتي اكتشفها عالم تاريخ أمريكي بالصدفة عام.1911 وكان هذا العالم مغرما بالتجول في الجبال وحده. وقد لاحظ فتي صغير في العاشرة من عمره هذا الاهتمام فعرض عليه أن يدله علي مكان غير مأهول لو أن الأمريكي أكرمه وأعطاه مبلغا كبيرا. وسأل الأمريكي وكان اسمه هيرام بينجهام(HiramBingham) الفتي عن المبلغ الكبير الذي يطلبه, فقال له الغلام بسعادة:50 سنتا!! وهذه الخمسون سنتا أو النصف دولار هي التي قادت إلي كشف القمة المسحو رة التي ظلت مختفية مئات السنين إلي أن أطل عليها بينجهام وأطلق عليها اسم المدينة المفقودة وبعدها عرف العالم سر هذه المدينة التي كلفت مكتشفها نصف دولار!. لقد تعاقب الأباطرة علي شعب إنكا وظلوا محافظين علي وحدة امبراطوريتهم إلي أن جاء في الفترة ما بين1493 و1527 امبراطور اسمه هوايانا كابك(HuayanaCapac) بلغت الامبراطورية في عهده ذروتها وأصبح لها جيش قوي يضم40 ألفا من المقاتلين إلا أنه حرصا علي الامبراطورية وخوفا علي ولديه قرر تقسيم الامبراطورية بينهما فأعطي الجزء الشمالي الذي عرف باسم بيرو إلي أحدهما, وأعطي إكوادور إلي الابن الثاني. وبدلا من أن يكون هذا التوزيع لصالح الامبراطورية فقد كان خرابا عليها. فقد دبت الخلافات بين الشقيقين وتكررت حكاية قابيل وهابيل فطمع الأول في نصيب الثاني وقام بغزو بلاده وتمكن في عام1530 من هزيمته وقتله في اكوادور والاستيلاء علي كل الامبراطورية. واكتملت المأساة بوصول القائد الأسباني فرانسسكو بيزارو إلي إكوادور في العام التالي فوجدها أرضا مليئة بالثروات جعلته يطمع فيها ويضمها إلي إسبانيا. وبرغم أن هذا الأسباني لم يكن معه سوي قوة تعدادها180 فردا إلا أنه تمكن من الاستيلاء علي امبراطورية إنكا التي كان لديها40 ألف مقاتل أنهكهم القتال مع إكوادور والفساد الذي استشري بعد أن جاء توزيع الغنائم التي لم يهنأوا طويلا بها فقد اجتاح البلاد وباء الجدري والتيفود بصورة أدت إلي القضاء علي معظم أفراد الشعب مما سهل علي القائد الأسباني احتلالها, ومن إكوادور امتد الاحتلال الأسباني الي الدول الأخري المجاورة. وبعد 300 سنة انطلقت من إكوادور أيضا حركة تحرير دول القارة.. وكان الموعد في جوياكيل عندما التقي فيها أشهر قائدين تحملا عبء تحرير أمريكا الجنوبية من الاحتلال الأسباني أحدهما سيمون بوليفار الفنزويلي الذي له ميدان باسمه في القاهرة قرب السفارتين الأمريكية والبريطانية, والثاني جوزيه سان مارتان الأرجنتيني. وكان بوليفار قد نجح في تحرير بلاده فنزويلا وبوليفيا وكولومبيا وإكوادور, بينما حرر سان مارتان بلاده الأرجنتين وبيرو وشيلي. وقد اتفق الاثنان علي اللقاء يوم9 أغسطس1822 في جوياكيل ولم يعرف أحد ماذا جري في الاجتماع الذي كان من نتائجه أن استقال سان مارتان من مناصبه تاركا لبوليفار تحرير بيرو. وسافر( مارتان) إلي أوروبا حيث أمضي بقية حياته حتي مات في فرنسا عام1850 عن72 سنة. وكان ذلك غريبا من محارب مشهور أن يلقي سلاحه فجأة بعد اجتماع جوياكيل وبعد حرب تحرير ومعارك عديدة خاضها ويعيش26 سنة بعيدا عن وطنه وقارته. أما سيمون بوليفار(1783 1830) فقد حاول بعد اجتماعه بسان مارتان استكمال ضم باقي دول أمريكا الجنوبية إلي الدول التي حررها ليكون منها حلم إنشاء امبراطورية عظمي سماها كولومبيا العظمي إلا أنه واجه معارضة شديدة, فكان أن انقلب علي مبادئه وأعلن نفسه ديكتاتورا عام.1828 وتغير موقف شعبه منه وهاجمه واضطره للاستقالة من الرياسة عام1830, وبعد قليل أصيب بمرض السل ومات فقيرا وحيدا مكروها, وإن أصبح فيما بعد موضع التقدير وبطل أمريكا اللاتينية, كما نقلت رفات جوزيه سان مارتان إلي بلاده الأرجنتين بعد ثلاثين سنة من وفاته في فرنسا! وفي جوياكيل حيث كان الاجتماع الغامض الذي حكيت عنه, أقيم في ميدان لاروتندا تمثالان طوليان للاثنين وخلفهما نصف دائرة من تسعة أعمدة ترتفع فوقها أعلام الدول التي حررها سان مارتان وبوليفار وكان الأخير يحلم بضمها في امبراطورية لم تر النور! * نقلا عن جريدة الاهرام المصرية