إن المسئولية التاريخية للعرب ولمصر وقيادتها في هذا التوقيت هي أبرز ما عبر عنه الرئيس مبارك في مقاله بصحيفة وول ستريت الأمريكية. فلقد اختار واحدة من كبريات الصحف العالمية الأكثر تأثيرا في دوائر صناعة القرار السياسي والاقتصادي ليكتب لها مقاله في توقيت يشهد انفراجا ملحوظا في الموقف الأمريكي ومن ثم العالمي من قضية الصراع في الشرق الأوسط. ووضع الرئيس في مقاله أسسا سوف تحكم التحرك العربي تجاه المبادرة الأمريكية التي عبر عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في القاهرة, وتجاه مراوغات نيتانياهو بالقفز فوق المتغيرات الجديدة عالميا وإقليميا بشأن القضية الفسطينية, وجاءت كلمات الرئيس واضحة ومعبرة في خطابه للقارئ الأمريكي حين عبر فيه عن دعمه ومساندته لما قاله أوباما في القاهرة من أن قضايا السياسة وليس صدام القيم هي التي تفصل بين أمريكا والعالم الإسلامي, ولذلك فإن حسم هذه القضايا هو المدخل الصحيح لإنهاء الانقسام بين الطرفين. وهي قضية بالغة الأهمية في مخاطبة الرأي العام الأمريكي. ثم انتقل الرئيس إلي تحديد ملامح التحرك في المرحلة المقبلة في ضوء النيات الأمريكيةالجديدة ومناورات اليمين الإسرائيلي الراغب في إجهاض أي تحرك أمريكي جديد, وأشار إلي أن العديد من تفاصيل التسوية النهائية أصبحت معروفة للجميع, وهناك المبادرة العربية التي وضعت إطارا إقليميا لمثل هذه التسوية. وهنا يؤكد أن العمل من أجل التسوية لن يبدأ من فراغ ولكن يتم بناؤه علي جهود طويلة بذلت وتحملت فيها مصر الكثير من الأعباء. ثم وضع الرئيس الجميع عند مسئولية إدارة هذه التسوية وتوافر الإرادة الحقيقية لوضع نهاية للأزمة القائمة.. إرادة قادرة علي تجاوز عقبة حسم مسألة الحدود الدائمة لدولة فلسطينية متصلة الأراضي علي أساس خطوط67, وإنهاء التوسيع العنيد للمستوطنات ووقف حصار غزة وجمع كلمة الفلسطينيين من أجل تحقيق آمال شعبهم في قيام دولتهم. وحين تحدث الرئيس عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل أكد أن ذلك ممكن حين تشمل التسوية الشاملة المسارات السورية واللبنانية بعد المسار الفلسطيني. وأن العرب مستعدون للاستجابة لكل خطوة جادة تقطعها إسرائيل في طريق السلام. وهذا هو الترتيب المنطقي الواقعي لإنهاء المشكلة, وبغير ذلك لن نستطيع الوصول إلي ما نريده جميعا. وعلي الرغم من أن الرئيس مبارك لم يحد في مقاله عما سبق أن أعلنه مرارا من تصورات لحلول الأزمة, فإنه اختار أن يخاطب الرأي العام الأمريكي مباشرة في تحليل مبسط لأزمة معقدة ومزمنة, وهي خطوة لها تأثيراتها في حشد الأمريكيين وراء أفكار إدارتهم الجديدة بشأن الصراع في الشرق الأوسط. فلقد تركنا الرأي العام الأمريكي طويلا يقتات علي ما تقدمه إسرائيل من معلومات تعبر فقط عن وجهة نظرها. إن مقالة الرئيس مبارك بالصحيفة الأمريكية الكبري فاتحة استراتيجية عمل جديدة للتعامل المباشر مع دوائر صنع القرار, والرأي العام في الولاياتالمتحدة. جاءت الرسالة الرصينة والعميقة بقلم الرئيس حسني مبارك لتعيد المسرح السياسي في الشرق الأوسط والعالم إلي موقعه الصحيح, في كيفية صياغة السلام بين العرب والإسرائيليين بعد أن حاول بنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي القفز علي هذا الواقع في خطابه الأخير العلني بجامعة ابارا ايلان بمراهنات خاسرة علي المتطرفين في كلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني, فأخذ من خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في القاهرة فكرة الموافقة علي حل الدولتين التي كان يرفضها في السابق, وأعقبها بشروط تستبق المفاوضات وتصادر حقوق الفلسطيينين في سيادة تقرير المصير, ووصلت الي حد تحويل الدولة التي اعترف بها للفلسطينيين إلي ما دون الحكم الذاتي, فهي دولة مسروقة المياه ومحاطة بالمستوطنات من كل حدب وصوب, وليست لها حقوق أمنية, بل إن أرضها وسماءها تحت الرقابة الإسرائيلية, وقراراتها واتفاقياتها مشروطة بالتصريح الإسرائيلي, كما أن أبناء الفلسطينيين في أراضي دولة إسرائيل سوف يصبحون تحت تهديد الطرد إذا وافقوا علي يهودية إسرائيل.. فأي دولة يريدها نيتانياهو, وأي تقرير مصير يريده للفلسطينيين!!. لقد جاءت كلمات الرئيس حسني مبارك برصانتها وعمقها وصدقها المعهود لتعيد الكرة الي الملعب الصحيح, وهو ملعب إسرائيل.. هذه الدولة التي تحتل الأراضي العربية.. أراضي الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين.. الأراضي المحتلة في عام1967. وأكد الرئيس إن مفتاح الحل الذي سيمهد الطريق لكل القضايا العالقة ويفتح الطريق للحل النهائي بعد الاعتراف بالدولة هو الحدود.. أي الانسحاب أولا ثم تأتي بعد ذلك باقي القضايا والخلافات الحادة, ومن الممكن حلها بالداخل وبعد الانسحاب الأسرائيلي عبر التفاوض بما يرضي الطرفين, وليس بالحلول الأحادية أو بفرض الحلول كما يريد نيتانياهو أن يفعل مع الفلسطينيين باعتباره دولة الاحتلال, بمعني فرض القوة علي الشعب الذي يحتل أرضه, ويعتبر ذلك تسوية بل ويطالب باستحقاقات السلام ومزاياه التي يجب أن يسلم بها العرب قبل أخذ حقوقهم اعترافا وأمنا وتطبيعا مع إسرائيل!! والرئيس مبارك في كلماته المكتوبة ينتزع كعادته المبادرة السياسية والقيادة من موقع الشعور بالمسئولية فيقدم وثيقة جديدة لكيفية صناعة الحل.. أي صناعة السلام, ويوجهه مباشرة لصانع القرار الأمريكي, ولا يترك المسرح للمتطرفين علي الجانبين كما خطط نيتانياهو ليغسل يديه من أطروحات أوباما في القاهرة بل ومسئوليات السلام والحل, ويحتفظ بالأرض ويمارس الاستيطان, ويلقي بتبعات ما يحدث علي المتطرفين العرب محملهم مسئولية رفض عروضه السخية للسلام امام الرأي العام الأمريكي والعالمي!! تحية وحبا للقائد السياسي العربي مبارك الذي أعطي نموذجا للتحرك الإيجابي الذي يحمي المصالح العربية والفلسطينية ويصنع السلام الذي تبحث عنه شعوبنا, والعالم من حولنا. فلقد أعطي بكلماته ميثاقا وعهدا للجدية, واحترام الكلمة في عرين الأسد الأمريكي, وكشف كل المغالطات وقلب الحقائق.. فهل نتعلم جميعا نحن العرب من منهجه وقدرته وأساليبه علي التأثير والمبادرات السياسية الفعالة؟ *الأهرام